تخطى إلى المحتوى الرئيسي

من طوكيو إلى أوساكا: رحلة الصحة والثقافة

الإثنين, نوفمبر 3, 2025
من طوكيو إلى أوساكا: رحلة الصحة والثقافة

لا يُقاس التقدّم في مسار الصحة بالبيانات والسياسات فحسب؛ بل إنّه يسري أيضًا على القصص التي نتداولها في تفاصيل حياتنا اليومية، والتي هي في حقيقة الأمر تجاربُ نعيشها ونحملها في وجداننا. فلقد ذهبتُ في رحلة عملٍ إلى اليابان مؤخرًا، بصفتي ممثلًا عن مؤتمر القمّة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية “ويش”، مركز السياسات الصحية التابع لمؤسسة قطر، حيث أتيحت لي فرصةٌ للقاء شركاء يابانيين واستخلاص دروس ثقافية أعادت إلى الذهن كثيرًا من سمات دولة قطر وتقاليدها.

فمن زحام الاجتماعات رفيعة المستوى في طوكيو، إلى مراسم التوقيع في جناح دولة قطر بمعرض إكسبو 2025 أوساكا، أظهرت لي هذه الرحلة أن التقاليد والسرعة والدبلوماسية يمكن أن تجتمع على مائدةٍ واحدة، وتحوّل البحوث إلى مساعدة حقيقة وعون ملموس. ومع قرب انعقاد إكسبو 2025 أوساكا، بدت التجربة على امتداد خط السكك الحديدية بين المدينتين بمثابة مسوّدة أو مخطط أولي لعلاقات صحية متينة وعادلة بين الشعوب. فكما يذكّرنا أهل الحكمة في دولتي قطر واليابان، التعاونُ هو أساس الصلابة؛ أو كما يقول المثل الياباني: 人は皆のために、皆は一人のために (فردٌ في خدمة الجماعة، وجماعةٌ في عون الفرد)، بمعنى أن التعاون هو لبنة الصمود.

طوكيو وبناء جسور المعرفة

بدأت الرحلة في طوكيو، المدينة التي تتجاور فيها التقاليد والابتكار في تناغم بديع. ففي جامعة طوكيو، التقيتُ أنا وزملائي من “ويش” مع خبراء يعملون في مجالات التكنولوجيا الرقمية، والصحة العالمية، والاستدامة، ومواءمة السياسات وكيفية ترجمتها إلى واقع. ودخلنا في نقاشات وحوارات عكست اهتمامًا مشتركًا، ألا وهو: تحويل الأدلة العلمية إلى ممارساتٍ فاعلةٍ في مجال الصحة العامة، وتوظيف التكنولوجيا لخدمة الصالح العام ومناصرة الصحة العالمية (مثل توثيق قصص الناس في مناطق النزاعات والكوارث ومشاركتها). وهذا بطبيعة الحال يتوافق مع رسالة “ويش” الأساسية، التي ترى ضرورة أن “تتحدث أفعالنا بصوت أكبر من كلماتنا” [MA1] عن طريق ترجمة الدفاع عن الصحة والسياسات القائمة على الأدلة إلى عمل ملموس يؤتي ثماره من حيث تحسين المخرجات وإحداث الأثر الإيجابي في مجال الصحّة.

وقد أضاف اللقاء مع الوكالة اليابانية للتعاون الدولي “جايكا” بُعدًا آخر إلى الرحلة. فالعمل الذي أنجزته “جايكا”، والذي امتدّ من مشاريع صحة الأمهات في إفريقيا إلى دعم تعزيز النظم الصحية في آسيا، رسم صورًا واقعية لكيف يمكن أن تسهم المساعدات التنموية في دفع التطوّر الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك في تعزيز الأمن الصحي.

وفي مؤسسة ساساكاوا للسلام، دارت النقاشات حول العمل الخيري و”دبلوماسية ساساكاوا العامة” التي تُعلي من شأن البذل، مؤكدةً أن العطاء يمكن أن يكون محرّكًا للعدالة الاجتماعية، وأن يُرسّخ مجتمعًا يسوده السلام والأمن والتكافل؛ لا سيّما وقد نبّهت جامعة الأمم المتحدة الجميع إلى أهمية التأهب والقدرة على الصمود حين تتزامن الجوائح مع الكوارث المناخية.

أظهرت هذه الحواراتُ مجتمعةً التزامَ اليابان العميق والراسخ تجاه الصحة العالمية، وفتحت آفاقًا جديدةً أمام مؤتمر “ويش” ليكون جسرًا يصل بين أجندة الابتكار في قطر والخبرات اليابانية في مجالات البحوث والسياسات والتكنولوجيا والتنمية.


دروس في الكفاءة: تجربة “شينكانسن

بعد يوم طويل من الاجتماعات، حملتُ أمتعتي متوجهًا إلى محطة طوكيو عند قرابة الساعة 3:15 عصرًا، لأستقل قطار “نوزومي شينكانسن” المتجه إلى أوساكا، أسرع قطار ياباني فائق السرعة، طمعًا في أن أشاهد عن كثب كيف تتجلّى الكفاءة اليابانية على السكة الحديدية. وقد أبهرني منظر القطار الانسيابي الأنيق إذ يغادر في موعده المحدّد، تعبيرًا عن ثقافةٍ تجمع بين السرعة الفائقة ومراعاة الدقّة في كل شيء.

وعملًا بنصيحة زميل ياباني، توقفتُ داخل المحطة التي تعجّ بالحركة عند أكشاك “إيكبن” (صناديق طعام “بنتو” التقليدية في محطات القطار)؛ فأذهلني التنوّع في وجبات “بنتو”، التي شملت تشكيلات باردة وملونة، وصناديق ذاتية التسخين ينبعث منها البخار، وأصنافًا أخرى طريفة صُممت على شكل قطارات “شيناكسن”. اخترتُ وجبة “بنتو” السلمون، التي تحوي مكونات طازجة معبأة بعناية فائقة. وعندما حان موعد الانطلاق، هرعتُ إلى الرصيف وصعدتُ القطار، لأجد مقعدي المحجوز إلى جانب النافذة في الجهة “د” (D)، وهو الأفضل لإلقاء نظرة على قمّة جبل فوجي على طول الطريق. بدت تجربتي وكأنها تتبع المنطق الذي يوجّه القطار نفسه: التخطيط المُحكم، والاتزان، والترتيب الدقيق.

كان القطار ينطلق بسرعة تجاوزت 300 كيلومتر في الساعة عندما فتحتُ وجبة “بنتو” لأتناولها وأنا أتأمّل القمّة الثلجية لجبل فوجي. في تلك اللحظة، انجلت أمامي حقيقةٌ عميقةٌ في دبلوماسية الصحة: أن السرعة لا تعني التخلّي عن الإنسانية؛ بل يمكن الجمع بين التخطيط الدقيق والتنفيذ المدروس والذوق الجمالي الرفيع لنمنح الإنسان تجربةً تغذّي الروح والجسم معًا.

بين “بنتو” و”سفرطاس”: تقاليد مشتركة بين الثقافات
 

مجرّد تناول “إيكيبين” استدعى إلى خاطري تاريخَ دولة قطر وعاداتَها في الترحال، وأرجعني إلى قصص كان عمّي يرويها عن حاله قبل عقود، حين كان العمال القطريون يستقلّون شاحنات النقل متوجهين إلى حقول النفط في منطقة دخان، حاملين معهم السفرطاس، أوعية السفر اليدوية التي طالما حملت وجبات أعدّتها العائلات. كانت تلك الوجبات تعين العمال على ساعات طويلة من العمل والكدّ تحت شمس الصحراء اللافحة، شأنها شأن وجبات “إيكيبين” اليابانية التي تعين ركّاب السكك الحديدية فائقة السرعة.

قد تبدو العادتان للوهلة الأولى متباعدتين، غير أن كلتيهما تجسّد الصبر وحُسن التدبير والبعد الاجتماعي. ففي دولة قطر، يعزّز السفرطاس أواصر الروابط الأسرية؛ وفي اليابان، تتيح وجبة “إيكيبين” لحظةً وادعةً من ثقافةٍ مشتركةٍ بين المسافرين. وفي كلتا العادتين تذكيرٌ لنا بأن الطعام ليس مجرد قوت وغذاء، بل يمثل بُعدًا اجتماعيًا للرعاية وحُسن استثمار الموارد.

هذا التوازي يؤكّد للعاملين في مجال الصحة العالمية أن تقاسم وجبة على مائدة مشتركة يحمل قيمةً عالية للحمية المتوازنة والتحضير الدقيق، ورأس المال الاجتماعي. كما أن هذه العادات تذكّرنا بأن خيوط الصحة تُنسج عبر مرافق الرعاية الصحية كما تُنسج في تفاصيل العادات اليومية التي تشدّ المجتمع بعضه إلى بعض.


شراكاتٌ لأثرٍ عالمي في مجال الصحة

انتهت رحلة قطار “شينكانسن” بوصوله إلى أوساكا، وهناك جرى التوقيع على مذكرة تفاهم بين “ويش” وجامعة طوكيو. وقد أعلن الحفل، الذي أُقيم في جناح قطر البهيّ، عن إطار عمل مشترك في مشاريع البحوث الصحية، ومناصرة السياسات، وأعمال بناء القدرات.

وفي كلمتي الترحيبية الموجزة، استشهدتُ بمثلين يختصران روح هذه الصلة: المثل القطري “ربع تعاونوا ما ذلّوا” والمثل الياباني “人は皆のために、皆は一人のために” (بمعنى فردٌ في خدمة الجماعة، وجماعةٌ في عون الفرد). كلا المثلين يلتقي على فكرةٍ واحدة: أن العمل معًا هو أساس الصمود والتقدّم.

وبعيدًا عن رمزية التوقيع، تطمح مذكرةُ التفاهم هذه إلى نسج الجودة البحثية والفهم الثقافي وترجمة السياسات في نموذجٍ من دبلوماسية الصحة يقدّم حلولًا ملائمةً محليًّا ومُلهِمةً عالميًّا. وهذا يتماشى مع الهدف الأساسي لمؤتمر “ويش”، بأن يكون ملتقىً لصنع “عالمٍ أكثر صحة من خلال التعاون العالمي ” عبر تعزيز الصمود وتحويل الأدلة إلى أثر ملموس.

سيواصل “ويش” دوره كملتقى وجسر للحوار، ومواءمة الأدلة، ومناصرة الصحة، وسيبني مزيدًا من الجسور بين الأمم والمؤسسات الأكاديمية والثقافات.

نسأل الله السداد والتوفيق.

عبدالله سعيد المهندي، مدير المنتديات وزميل بحث في مؤتمر القمّة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية “ويش”، التابع لمؤسسة قطر. يقود تطوير المنتديات البحثية والمحتوى الخاص بسياسات الصحة، ويركّز عمله على تعزيز النشاط البدني، واستراتيجيات الصحة العامة، والتعاون بين القطاعات. وهو راكب دراجاتٍ شغوف، يستكشف الثقافات والقضايا العالمية عبر سباقات خيرية مع فريق “دراجو قطر”.