عام مع «ويش» في مؤسسة قطر: تعلُّم وإنصات وتطور

الدكتور سليم سلامة، الرئيس التنفيذي لمؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية «ويش»
مضى عام كامل منذ أن توليت عملي كرئيس تنفيذي لمؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية «ويش»، التابع لمؤسسة قطر؛ هذه المحطةُ التي اعتبرها فارقة في مسيرتي. يمر الزمن، كما يُقال هنا في قطر «كالريح عبر الرمال»، سريعًا، بلا توقف، حاملًا بين طياته فرصًا لا حدود لها. كل يومٍ أمضيه داخل هذه المؤسسة الاستثنائية، يذكرني بالحكمة التي تقول «من لا ماض له، لا حاضر له»، وهي حكمة تنطبق بشدة على دولة قطر، وتجسّدها قصة «ويش» التي تقدم نموذجًا يجمع بين التقاليد الراسخة والرؤية المستقبلية الطموحة.
حين تولّيت هذه المسؤولية، تلقيت توجيهات واضحة وطموحة من الإدارة العليا في مؤسسة قطر، وهي تحويل «ويش» من قمة عالمية مرموقة في مجال الصحة إلى مركز دولي متكامل متخصص في صنع السياسات، لا يقتصر دوره على جمع الأطراف المعنية بمجال الصحة، بل يسهم إسهامًا مؤثرًا في رسم ملامح السياسات الصحية على مستوى العالم، مع الاستمرار في تنظيم القمة، بصفتها أبرز مبادرات المركز. ولا أزال أذكر لقاءاتي الأولى مع صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر، ومع سعادة الشيخة هند بنت حمد آل ثاني، نائب رئيس مجلس الإدارة حاليًا والرئيس التنفيذي آنذاك، فقد لمستُ بنفسي حينها مدى عمق رؤيتهما التي تتجاوز حدود الممكن وتتطلع لتحقيق المستحيل؛ وهي رؤية لا تحمل تصورًا لقمة «ويش» أو المؤسسة فحسب، بل تسعى لبناء عالم أفضل من خلال المشاركة الجادة والفاعلة في قضايا الصحة العالمية. لقد تأثرت بتوجيهاتهما تأثرًا عميقًا، أدركُت معه الأهمية البالغة لدور القائد الذي يحلم أحلامًا جريئة ويتبعها بأفعال مدروسة على أرض الواقع.
وإنني إذ استذكر عامي الأول في مؤسسة قطر، أجد أن ما لمسته من انفتاح وتفان هو أكثر ما ميَّز هذا العام، وجعله حافلًا بالاكتشاف والتطور المستمرين في هذه المؤسسة الملهمة التي تضم 57 جهة، يجمعها غاية واحدة، وهي النهوض بالإنسان من خلال العلوم، والتربية، والفنون، والإيمان. لم تكن مهمتي الحفاظ على ما تحقق من تميّز فحسب، بل كان عليَّ أن أصيغ منظورًا جديدًا للتميّز أيضًا. وقد تعمّدنا في خارطة طريق المرحلة الجديدة التي رسمناها لـ «ويش» أن تُقسَّم إلى مراحل وأن تُصاغَ في ضوء مشاورات مكثفة مع الشركاء والأطراف المعنية، وخاصة من مجتمع مؤسسة قطر. وتتميز هذه الخارطة بوضوح أهدافها، التي سيجري تنفيذها على مراحل متعددة تمتد لثلاث، وست، وتسع سنوات، على أن تستكمل كل مرحلة ما حققته سابقتها، لضمان الاستمرارية ومواكبة كل جديد في عالم السياسات الصحية بما فيه من تغييرات وتعقيدات.
ولأنه ما من قائد يسير وحده، فإنني أدينُ بامتنان عميق، في هذه المرحلة الانتقالية، للجنتنا التوجيهية، التي يقودها بحكمة ورشد البروفيسور اللورد آرا دارزي، والدعم الذي لا يضاهيه دعم من الرئيس المشارك للجنة الدكتور أحمد حسنة، فقد فتحا أمامي أبوابًا كثيرة وقاما بتزويدي برؤى قيمة للغاية، استنادًا إلى رصيدهما الواسع من الخبرات في عالم صنع السياسات في قطر وخارجها. كما أعرب عن امتناني للجنة بكامل أعضائها الموقرين، على ثقتهم، وصراحتهم، ودعمهم المستمر لي في هذه الرحلة الجديدة التي تأقلمت خلالها بسهولة، بفضل روحهم الطيبة، وترحيبهم بتقديم التوجيه والدعم.
ولعل من أبرز المحطات التي مررت بها خلال هذا العام، مشاركتي في النسخة السابعة من قمة «ويش»، حيث استقبلنا خلالها أكثر من أربعة آلاف شخص من صنَّاع السياسات، والممارسين الصحيين، والمبتكرين من جميع أنحاء العالم، وقد امتلأت بهم القاعات واشتعلت حماسًا تجاه القضايا المتعلقة بالصحة. كما ذكرني لقائي خلال القمة بزملاء سابقين، من بينهم مديري السابق الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، بقوة العلاقات التي تُبنى من أجل تحقيق هدف مشترك. لم تكن القمة مجرد حدث عادي، بل كانت تجسيدًا حيًّا لما تمثله «ويش»، وأهمه الإيمان بقدرة الحوار والتعاون والعزيمة على دفع عجلة التقدم للأمام وتجاوز أي تحديات مهما بلغت صعوبتها.
لم تعد القمة اليوم حدثًا ملهمًا ومؤثرًا فحسب، بل ازداد دورها المؤسسي واتسع نطاقه، لتصير بمثابة نقطة انطلاق لجهود المركز المتواصلة، التي تعززها الشراكات والمبادرات البحثية والنقاشات المتعلقة بالسياسات؛ وهي جهود أكبر من أن تحتويها أي قمة. هذه الجهود اليومية، التي تمر أحيانًا دون أن يتوقف أمامها أحد، هي التي تُكسِب التحوّل الذي نشهده في «ويش» زخمًا حقيقيًا.
وقد كان لخطة توظيف الكفاءات العالمية في «ويش»، المبنية على احتياجات مدروسة، دور جوهري في تحقيق هذا التحول، وبالأخص على مستوى تعيين مديري السياسات والمحتوى، بالإضافة لدور الشراكات والتواصل الخارجي. لقد ضخ الوافدون الجدد دماء جديدة في المكان، بخبراتهم وتصوراتهم المختلفة وتجديدهم للدوافع داخل الفريق. ولكن الأهم من التوظيف، كان تبنينا لثقافة عمل مبنية على التكامل وتقديم الدعم على مستوى أفراد الفريق؛ ثقافة تجمع بين البناء على ما تحقق من منجزات مع الانفتاح على التجديد، إيمانًا منا بأن تحقيق الرؤية الجديدة لـ«ويش» لا يتأتى بالاعتماد على شخص واحد أو خطة واحدة، بل تتطلب أن نحلم معًا أحلامًا طموحة. ولهذا، نحتاج إلى غيرنا من الموهوبين والمتفانين، ممن يتمتعون بالفضول المعرفي ووضوح الهدف ومشاركة الخبرات مع الغير، لإثراء رحلتنا المشتركة.
عادةً ما يرتبط التحوّل الجذري بالرؤية والطموح، لكن الناس في الحقيقة هم الذي يصنعون هذا التحول، من خلال بناء الثقة والتراكم التدريجي للخبرات. إن بناء مركز عالمي ذو ثقل على صعيد السياسات الصحية لا يتطلب اسمًا أو سمعة جيدة فحسب، بل يحتاج تحالفات مدروسة، قد يكون بناؤها شاقًا؛ نظرًا لتعقيداتها وطبيعتها المتغيرة وبعدها الإنساني العميق. وهنا في «ويش»، الشراكة ليست شعارًا، بل مبدأ حيّ. فخلال الأشهر الماضية، أطلقنا شراكات استراتيجية مع مراكز بحثية رائدة حول العالم، ترتكز على الاحترام المتبادل والهدف المشترك، وتشكل الأساس الذي يجعل من «ويش» مركزًا وازنًا في المستقبل.
وقد وفرت لنا دولة قطر، باعتبارها جسرًا بين مناطق جغرافية مختلفة، بيئة خصبة لبناء هذه التحالفات. ويظهر ذلك جليًّا في مشاركة «ويش» في الحوار الاستراتيجي بين قطر ومنظمة الصحة العالمية، بجانب وزارة الصحة، ووزارة الخارجية، وصندوق قطر للتنمية، وقطر الخيرية، وغيرها من الشركاء المرموقين. إن دعوة «ويش» للمشاركة في هذه النقاشات المهمة كانت إشارة من شركائنا في الحكومة بثقتهم فينا، واعترافًا بالقيمة التي تضيفها «ويش» من خلال تشجيعها للابتكار في السياسات.
ومن اللحظات التي لا تُنسى في عامي الأول أيضًا مشاركتي في الاحتفال بمرور ثلاثين عامًا على تأسيس مؤسسة قطر. وقد كان حدثًا بارزًا اجتمعت فيه عائلة مؤسسة قطر بأكملها للاحتفاء بثلاثة عقود من التأثير الهائل الذي أحدثته المؤسسة في مجالات التعليم والعلوم والبحوث وتنمية المجتمع. أقيم الحفل في الموقع التاريخي للشقب، الذي كان شاهدًا على معركة الوجبة الفاصلة في تاريخ قطر عام 1893، مما منح الحفل ارتباطًا عميقًا بالتراث ونبل الغاية. وقد كان شرفًا لي حضور الحفل بجانب صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، الأمير الوالد، وصاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، وسعادة الشيخة هند. كما سعدتُ بجلوسي بجانب سعادة السيد منصور بن إبراهيم آل محمود، الذي عُيّن مؤخرًا وزيرًا للصحة العامة، وقد جمعنا نقاش ثري تناولنا فيه مستقبل النظام الصحي في دولة قطر، واستعرضنا رؤية سعادته الطموحة لإحداث إصلاحات جذرية في مجال الصحة، بدءًا من تعزيز دور الوزارة الإشرافي والتنظيمي إلى رقمنة الخدمات وتطوير نظام التأمين. لقد ذكرتني تلك الأمسية كيف تستمد الطموحات الحالية لدولة قطر قوتها من إرث الدولة العريق، وكيف يمكن لـ«ويش» أن تساعد في كتابة الفصل المقبل من هذه القصة.
كما شعرت بحماس بالغ أيضًا هذا العام وأنا أشاهد الثراء الفكري لمنتسبي مؤسسة قطر خلال الجلسات التي أدرتها في جناح مجلس قطر للبحوث والتطوير والابتكار خلال النسخة الماضية من قمة الويب قطر، وعند الإشراف على جلسات مؤتمر الذكاء الاصطناعي والطب الذي استضافه سدرة للطب، وفي أثناء تقييم ابتكارات الطلاب في جامعة حمد بن خليفة.
إنني لا أجد تعبيرًا يصدُق في وصف المدينة التعليمية أفضل من هذا التعبير «كلنا أوراق في شجرة واحدة»، فهي القلب النابض لمنظومة مؤسسة قطر، حيث تلتقي الأفكار وتنصهر وتزداد قوة. إن العمل جنبًا إلى جنب مع أسرة المدينة التعليمية، والتعاون مع ثلاثة مراكز أخرى متخصصة في السياسات، وهي معهد الدوحة الدولي للأسرة، و«إرثنا»، وقمة الابتكار في التعليم «وايز»، عزَّز من قناعتي بأن العمل المنفرد لا يحدث تحولًا، وإنما يحدث التحول بتضافر الجهود وتنسيقها والتكامل بين التخصصات المتعددة. لقد كانت مشاركاتي في مؤتمر معهد الدوحة الدولي للأسرة وقمة «إرثنا» ثرية وملهمة للغاية، فقد ذكّرتني بأن الابتكار في السياسات الصحية لا يمكن أن يتحقق دون التقاطع المعرفي بين التعليم، والأسرة، والبيئة، والتكنولوجيا. ولهذا، أتطلع بشغف إلى قمة «وايز» التي تقام خلال أشهر قليلة.
ومع مرور عامي الأول، أود أن أعبّر عن بالغ سعادتي لما لمسته من ترحيب واحتواء من زملائي في المؤسسة، وفي كل مكان في الدوحة، وأشير هنا بالتحديد لروح الزمالة والإبداع التي تجلَّت خلال جلساتي المشتركة لتناول القهوة، وفي الاجتماعات العفوية لمناقشة الاستراتيجيات ومئات الأحاديث العابرة. كما أبدي امتنانًا خاصًا لفريق «ويش» الذي رافقني في هذه الرحلة؛ هذا الفريق الذي يحمل أعضاؤه إرث المكان ومنفتحون في الوقت نفسه على التجديد، فهم يحترمون الماضي وعيونهم على المستقبل. في كل صباح، أصل إلى المكتب وأنا متحمس لأرى، وأسمع، وأتعلّم منهم؛ فهم يتمتعون بطاقة إيجابية معدية. إن مؤسسة قطر غالبًا ما توصَف بأنها عائلة واحدة؛ وهي بالفعل كذلك بالنسبة لي.
وإنني إذ أتطلّع إلى المستقبل، أشعر بحماس تجاه ما ينتظرنا. كان هذا العام عام بناء الأساسات، وحُسن الإصغاء، والتفكير في طموحات جريئة تقوم على أرضية صلبة. أما المرحلة المقبلة لـ«ويش»، فستقوم على توسيع الشراكات، لتشمل مناطق جغرافية وتخصصات مختلفة، إلى جانب توجيه دفة «ويش» لتكون مركزًا تتحول فيه الأفكار إلى سياسات قابلة للتطبيق تخدم الجيل المقبل، وليس مجرد محفل تجتمع فيها أبرز العقول في مجال الصحة. وإذا كان ثمة درس تعلمته من تفاعلي مع طلاب الهندسة والابتكار الاجتماعي في جامعة حمد بن خليفة، فهو أن المستقبل ليس ملكًا لمن يتنبأ باحتياجات المستقبل فحسب، بل لمن يصغي لرغباته وطموحاته، ويجب أن تكون «ويش» كذلك، ونحن بالفعل نسير في هذا الاتجاه.
إن مهمتنا وإن كانت عظيمة، إلا أننا نزداد أمامها تواضعًا، إذ ندرك أن ما نسعى لتحقيقه في مؤسسة قطر هو خدمة الإنسانية. روح الطموح هنا جارفة، تتجلى قوتها في مجالات التعليم والبحث وبناء التحالفات عبر القطاعات والقارات. ولهذا، أود أن أعبّر عن امتناني العميق للإدارة العليا في المؤسسة التي وثقت في رسالة «ويش» وفي قدرتي على قيادتها؛ وهي ثقة لن اعتبرها يومًا حقًا مكتسبًا.
إن التغيير ليس سهلًا أبدًا، حتى وإن كان مرحبًا به. وكما يقول المثل «الصبر مفتاح الفرج». وها قد بدأت «ويش» فصلًا جديدًا في رحلتها بخطوات متأنية ورؤية مدروسة. رؤيتنا واضحة، وعائلتنا في مؤسسة قطر وحول العالم، تزداد اتساعًا. ومع كل نقاش، وكل شراكة، وكل مبادرة، تظل قناعتنا الأساسية راسخة: معًا، يمكننا رسم ملامح مستقبل صحي أفضل، لنا جميعًا.
لكل من رحّب بي خلال عامي الأول من زملائي في المؤسسة، وأعضاء اللجنة التوجيهية لـ «ويش»، وشركائنا الجدد والقدامى، وقبل ذلك كله، الشعب القطري الملهم، أشكركم جميعًا. الرحلة مستمرة، والقادم لـ «ويش» أفضل بمشيئة الله.
Similar Blogs AR

الرضاعة الطبيعية مسؤولية مجتمع: الثقافة، والسياسات، والدعم المجتمعي
اقرأ أكثر...