تخطى إلى المحتوى الرئيسي

بناء الجسور للصحة العالمية: شراكة “ويش” وجامعة طوكيو

الخميس, سبتمبر 25, 2025
بناء الجسور للصحة العالمية: شراكة “ويش” وجامعة طوكيو

بقلم كوكي شيغينوي، باحث زائر في جامعة طوكيو

زرتُ الدوحة لأول مرة في ربيع عام 2018، حينها غمرني شعور فريد بالشغف حيال ما قد تحققه الشراكات الدولية والطموحات المشتركة في مجال الصحة العالمية. وتحت سماء مترامية الأطراف وحرارة لافحة، دخلتُ المدينة التعليمية، القلب النابض لمؤسسة قطر وحاضنة مؤسساتها الأكاديمية، حيث تلتقي الثقافة بالابتكار. هناك، في رحاب ذلك المشهد الفسيح الذي صاغ ملامحه معماريون يابانيون مرموقون، وتردّدت في أرجائه خيوط التفاعل الثقافي، شعرتُ أنني على أعتاب رحلةٍ جديدة، دقيقة ومتشابكة، تصل بين قطر واليابان.


خلال الأشهر الأولى من إقامتي في قطر، استقبلني زملاء في جامعة حمد بن خليفة ومركز الجزيرة للدراسات بحفاوة لم تفارقني ذكراها. وكانت التجربة مؤثرة في حياتي، على الرغم من أنها كانت محدودة بقيود اللغة والظروف. فالترحيب الذي تلقيته منهم ظلّ في ذاكرتي طوال السنوات التالية حين عدتُ إلى اليابان واندمجت في العمل الحكومي والدوائر الأكاديمية، وتأملت التغيرات الكبرى التي شهدتها البلاد، وتوجّه اليابان نحو مصالح منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأولويات الأمن الاقتصادي، بينما كان العالم غارقًا في جائحة كوفيد–19. عندها ازداد يقيني بأن الجامعات والتحالفات العابرة للحدود هي السند الأوثق لمواجهة الأخطار الصحية وتعزيز رفاه الإنسان.


ثم جاءت لحظة فاصلة مع الغزو الروسي لأوكرانيا؛ إذ أثارت الأزمة عزمًا متزايدًا في اليابان على نصرة القانون والنظام الدولي، وتهيأت للباحثين فرص لتقديم أفكار ورؤى جديدة للتحديات العالمية الملحّة. وجاء من بين تلك الأفكار مشروع “الواقع الافتراضي للأزمات” (Crisis VR)، الذي ابتكره مهندسون وعلماء بجامعة طوكيو، ليتيح للمستخدمين تصوّر آثار الحرب في أوكرانيا عبر تقنيات الواقع الافتراضي. كانت قوة هذه الأدوات في توثيق الأزمات وزيادة وعي الجمهور دافعًا لي للتواصل مع شوهي كوماتسو ومستشاره، البروفيسور هيدينوري واتانافي، اللذين يرتكز عملهما على الأرشفة ثلاثية الأبعاد المستخدمة في نظام الواقع الافتراضي هذا. وبحثنا معًا مدى ملاءمة هذه التقنيات للشرق الأوسط وكيف نصل بها إلى شركائنا في قطر.


أحيا ذلك التواصل علاقتنا بجامعة حمد بن خليفة وشبكة الجزيرة الإعلامية، اللتين رحبتا بمشروعنا لما فيه من ابتكار تقني متقدّم. وفي مارس 2024، سافرنا إلى الدوحة حاملين معدات الواقع الافتراضي بروح التعاون، وعرضنا مشروعنا في أماكن شتى ومناسبات عديدة، ثم أبرمنا اتفاقًا مع الجزيرة لإنتاج نماذج للواقع الافتراضي مستندة إلى بيانات ميدانية أصلية جمعها صحفيون في غزة. ولم تكن هذه الجهود لتؤتي ثمارها لولا الشراكات الموثوقة مع الجزيرة، والأونروا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرها من المؤسسات التي أتاحت لنا الجمع بين قوة التحليل ورصيد المعرفة العالمية. وبحلول عام 2025، توسّعت شراكاتنا من خلال مبادرات مثل مشروع “مقاومة المحو” (Fighting Erasure)، الذي وثّق الهجمات في فلسطين ولبنان توثيقًا شاملاً، وانتهى بعقد ندوة في طوكيو لتبادل الأفكار حول حفظ وتقديم الأدلة التي جُمعت في أثناء الحرب.


بعد ذلك، وبوساطة من السفارة اليابانية في الدوحة، تلقّى فريقنا دعوة للتواصل مع مبادرة “ويش” التابعة لمؤسسة قطر قبيل معرض “إكسبو 2025 أوساكا”. وما بدأ كدعوة عابرة لفعالية جانبية سرعان ما تحوّل إلى بوابة لتعاون أعمق، حيث اقترحنا مشاريع تستفيد من خبرة جامعة طوكيو الواسعة، لا سيما في مجالات الطب والعلوم المتقدمة والتكنولوجيا، وتجمع باحثين قطريين ويابانيين لأهداف مشتركة.


واليوم، تقوم شراكة “ويش” وجامعة طوكيو على أرضية صلبة من قصصٍ وتجارب متشابكة. وما بدأ من مختبر بحثي واحد توسّع بسرعة ليشمل كبار العلماء والمفكرين في مجالات الطوارئ الصحية، والتأقلم مع المناخ، والتواصل في مجال الصحة. وهكذا لم تعد الحكاية حكاية باحثين أفراد، بل أضحت قصة مؤسستين توحّدت جهودهما لمواجهة أكثر التحديات الصحية العالمية إلحاحًا.


أظهرت الأحداث العالمية الأخيرة أن النظم الصحية حين تُستهدف في مناطق النزاع، أو حين تجتاحها الجوائح، فهي في أمسّ الحاجة إلى استجابة دولية حاسمة. وهنا تتكامل خبرة جامعة طوكيو في إدارة مخاطر الكوارث مع قدرة “ويش” العالمية في جمع أصحاب القرار، لتعزيز الاستعداد ووضع سياسات مستنيرة تتصدى لأزمات الأوبئة والحروب. ومع تصاعد تهديدات التغير المناخي، التي بات يثقل كاهل الأنظمة الصحية في كل مكان، تتضافر جهودنا ومواردنا وخبراتنا لاستحداث أطرٍ وسياسات جديدة للتأقلم، تستند إلى البراهين العلمية وتستشرف مستقبلاً أكثر صلابة. وإلى جانب ذلك، يظلّ الاتصال الصحي حجرَ الأساس؛ ففي زمن يهدد فيه التضليل ثقة المجتمعات، تعمل فرقنا على ابتكار أساليب وعادلة وفاعلة وتتسم بالشفافية في نشر المعرفة الصحية، مستندة إلى قوة المؤسستين في خدمة الناس وصنّاع القرار.


وفي خضم العنف المستمر في فلسطين، والحروب التي لم تُحل في السودان وميانمار، وتضاعف أساليب التضليل عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تجد شراكتنا نفسها أمام واقع معقّد. غير أن التزامنا يظل ثابتًا بتوثيق الحقائق بنزاهة، ومواجهة التشويهات المعلوماتية، وإعلاء صوت الخبرة والمعرفة الموثوقة. بذلك تنهض شراكتنا بين “ويش” وجامعة طوكيو، قوةً فاعلةً في تعزيز الصحة العالمية والقدرة على الصمود، ومنارةً للتعاون الدولي.


مستلهمين ما تسمّيه التقاليد اليابانية “إن”، أي خيط القدر، ومرتكزين على الاحترام المتبادل، نطمح أن نقدّم إسهامًا ملموسًا يعزّز السلم والعدالة ويحفظ كرامة الإنسان. فهكذا تتلاقى الدقة الأكاديمية والتحالفات الموثوقة، لتغدو الشراكة بين “ويش” وجامعة طوكيو مسارًا حيًا وطريقًا ملموسًا نحو تحسين حياة البشر وصون الأجيال المقبلة.