التصفّح واللامبالاة والنسيان: بلادة العالم أمام الحرب على الرعاية الصحية

بقلم سانور فيرما، مدير الشراكات والتواصل في “ويش”، مؤسسة قطر
تخيّل هذا المشهد: مستشفى يُسوّى بالأرض، وأطباء يُقتلون بدم بارد، وسيارات إسعاف تُنسف، وطلاب طب يُخطفون فلا يُعرف لهم أثر. تمر الأخبار سريعًا على شاشة هاتفك، مجرد قطرة أخرى من سيل الفواجع اليومية المتلاحقة. وقبل أن يحلّ وقت الغداء، تكون نوبة الغضب قد تلاشت، لتفسح المجال أمام مقاطع القطط الطريفة أو آخر المشاحنات بين المشاهير على الشواطئ المشمسة.
نعرف جميعًا اتفاقيات جنيف. ونذكر أيضًا رمز الصليب الأحمر وكذلك الهلال الأحمر، الذي ظلّ مرفوعًا على ساحات الحروب ومناطق الكوارث لأكثر من قرن. ومع ذلك، هنا في عام 2025، صار الاندهاش العالمي إزاء الهجمات على الصحة أندر من الكبريت الأحمر، وفي حكم المعدوم، مع أن العيادات تقصف والمسعفون يُحرقون عمدًا، لا عن طريق الخطأ أو المصادفة. فكيف تحولت أقدس المحرّمات في الحروب المعاصرة إلى مجرد عنوان عابر لا يكاد يخدش ضمير العالم؟
كان بيتر ساندمان، ذلك الناقد الدائم في عالم الاتصال خلال الأزمات، سيجد في هذا الأمر مادة خصبة؛ إذ إن قاعدة ساندمان الشهيرة تقول: الخطر يساوي الأذى زائد الغضب. ولا تزال هذه القاعدة صامدة لم تتزعزع منذ أن دوّنها علماء الأوبئة ومخططو الطوارئ الأوائل على أوراقهم. فحين يستبدّ الغضب بالناس، لا يرون الخطر محدقًا فحسب؛ بل يتصرفون كمن لدغته أفعى، لا يهدأ لهم بال. أمّا عندما يتعلق الأمر بالهجمات على المستشفيات، يبدو العالم كمن سكب ماءً باردًا على جمرة الغضب، ويواصل التمرير على الشاشة بلا مبالاة. لماذا لا نشعل غضبًا جماعيًا؟ لماذا تتلاشى هذه الفظائع من وعينا، ولا تترك سوى أثرٍ من موجة إحباط خفيفة؟ لا تكمن الإجابة في حجم العنف، بل في أسلوب إثارة الغضب، وإدارته، والأدهى من ذلك، في كبته.
لنكن واضحين: ما يجري في غزة وأوكرانيا والسودان وميانمار وأماكن أخرى ليس مجرد أضرار جانبية، ولا مجرد أعمال عشوائية لجماعات مارقة، بل هي حملات ممنهجة ومقصودة. فقد أحصت منظمة الصحة العالمية أكثر من 1,300 هجوم على منشآت صحية عام 2023؛ ووثّقت وزارة الصحة في غزة تدمير أنظمة مستشفيات بأكملها، مع ما يقارب 500 من الطواقم بين قتيل وفقيد بحلول ربيع 2024. وفي أوكرانيا، تحولت سيارات الإسعاف إلى أهداف متحركة، إلى حدٍ جعل السائقين المتطوعين يمحون الصليب الأحمر عن أبوابها بطلاء كي تُكتب لهم النجاة على الطريق. وفي السودان يُعدَم المسعفون، وأحيانًا على البث المباشر. وفي ميانمار، تُغلق العيادات وتحرق وتُصادر عند أول بادرة للقتال. هذه الهجمات ليست حوادث عَرَضِيّة متناثرة؛ بل جزء من استراتيجية أوسع، وحرب على الرعاية الصحية، وعلى الإنسانية.
لكن المأساة الكبرى ليست في الاستراتيجية، بل في البلادة العالمية. فصورةٌ واحدةٌ لغرفة ولادة قُصفت في سراييفو كانت تكفي لاستثارة البرامج الحوارية من سيدني إلى ستوكهولم؛ أما الآن، فإن الهجمات الكيميائية على العيادات في سوريا أو أجنحة مستشفيات الأطفال التي سُوّيت بالأرض في غزة لا تولّد إلا وسمًا على منصات التواصل الاجتماعي. أين ذهب غضبنا؟ يشير ساندمان إلى بنية العاطفة الإنسانية فيقول: الغضب، ذلك الوقود الذي لا غنى عنه للعمل، لا ينشأ من الوقائع وحدها. إنه يتفجّر من شعور الناس بالظلم والإجبار، وبأن الخطر اقترب من بيوتهم، أو جاء على يد خصوم لا يُوثق بهم. لكن هذه العوامل كلها ما زالت ساكنة، لم تحرك في النفوس شيئًا.
خذ عامل المسافة مثلاً. الغضب يحتاج إلى اقتراب المسافة كما تحتاج النار إلى الأكسجين. إذ إنّ ضربة جوية على مستشفى في الخرطوم أو كييف تبقى بعيدة بملايين الأميال عن وجدان قارئ في باريس أو جاكرتا، مهما كان وقعها مؤلمًا. والغالبية لا تعرف طبيبًا سودانيًا للأطفال ولا ممرضة فلسطينية؛ فهؤلاء بالنسبة لهم بلا صوت ولا ملامح. وحين تتداخل الجغرافيا والثقافة، تتحوّل المأساة إلى ضوضاء باهتة: لا تستفزّ شعورًا بالأزمة على الرغم من كونها مؤلمة. فالإنسان يشتعل وجدانه لأجل من يراهم أهله وجيرانه؛ وما دون ذلك يذوب في خانة الإحصاءات. وبرغم أن عام 2024 قد فاق كل الأعوام السابقة في أعداد القتلى والجرحى العاملين في قطاع الصحة، فإن الروابط الإنسانية لم تواكب هذا التصاعد؛ لأنه حين تنقطع الصلة، يتلاشى الغضب.
ثم يأتي عامل الإرادة الطوعية: فالغضب يشتعل حين نرى الآخرين ضحايا بلا حول ولا وقوة. غير أنّ شعوب سوريا وميانمار وغزة قد طال اضطهادها واستُنزفت مأساتها حتى كادت ضحاياها تبدو وكأنها قدرٌ مختار، منقوش في وعي العالم. يُشاد بالعاملين الصحيين على أنهم أهل تضحية نبيلة، لكن يترسخ انطباع خفيّ بأنهم اختاروا الخطر بأنفسهم. وينسى العالم أو يتناسى أن طبيب الهلال الأحمر لا يتدرّب على الإعدام، وأن ممرضة التغذية لا تلتحق بعملها على أمل أن تستقبلها فوهة مدفع.
أضف إلى ذلك عامل الثقة: فالغضب ينفجر حين يدرك مصدر موثوق بأن خطبًا ما جللاً قد حدث، ويرفع إصبع الاتهام المرتجف مشيرًا إلى المجرمين، سواءً كان هذا المصدر حكومة، أو مؤسسة غير حكومية، أو منظمة صحية. لكن خطاب الأزمات الحالي لا يأتينا إلا في قوالب يطغى عليها طابع التكرار الممل، من قبيل “علينا أن نصون الرعاية الصحية”، أو “على جميع أطراف النزاع أن تحترم القانون الدولي”. كلها كلمات على غرار ينبغي، ويجب، ويتعيّن؛ وتصريفات للتنصل، وتمرير عصا اللوم من يد إلى يد، بلا أسماء أو انفعالات. لقد أُقصى التعاطف الإنساني وكأنه في الحجر الصحي، وغابت العاطفة عن كل بيان صحفي على يد فرق انشغلت بالكدمات الدبلوماسية أكثر من انشغالها بالجراح النازفة في اللحم والدم. أين الغضب الحق؟ أين الصوت المتهدج الذي يقر بالفشل؟ قادة الصحة يتوارون، وكأن الغضب مادة سامة لا يقتربون منها إلا بأدوات معقمة. وحين تصل بياناتهم الباهتة إلى الجمهور، فإنها تثير النعاس لا الحراك.
وهذا يقودنا إلى مسألة العدالة: فالهجمات على الرعاية الصحية هي عين الظلم، ومع ذلك باتت مألوفة وكأنها أمر اعتيادي. ومع كل تقرير يُذاع، من قبيل 1342 عيادة دُمّرت في عام 2023، ومسعف آخر قُطع رأسه في دارفور اليوم، يزداد العالم بلادة. لماذا؟ لأن الرسائل أضحت بلا روح على الرغم من تتابعها بلا انقطاع. مجرّد أرقام منزوعـة من سياقها، ومظالم مُسطَّرة في جداول. حتى الفظائع حين تتكرر تُصبح مألوفة، وكما يذكّرنا ساندمان: التكرار يُسطّح الجريمة. وكلما تجاوز العالم الخطوط الحمراء الإنسانية بلا عواقب، ذابت هذه التجاوزات في غبار المعركة.
لكن ها هنا سؤال صريح نادر الطرح: ما دامت الأطراف المتحاربة اليوم لا تتورع عن استهداف النساء والأطفال والشيوخ، وهم الأشد ضعفًا والأكثر عجزًا عن الدفاع عن أنفسهم، فهل من الواقعي أن نتوقع ضبطًا للنفس عندما يتعلق الأمر بالصحة أو التعليم؟ وإذا كان المحرّم في استهداف المدنيين قد انهار، فماذا يبقى من حصانةٍ لفرق الإسعاف أو لمعلّمي الفصول؟ لقد تآكلت أخلاقيات القانون الإنساني حتى غدت نداءات الضمير والمواثيق بلا أثر يُذكر. ما زلنا نفترض وجود حدود، ونرجو الجيوش أن تعفي المستشفيات والمدارس، لكن الحقيقة أن تلك الحدود انتُهكت منذ زمن بعيد، حتى أضحى الأمل في مراعاة حرمة هذه الملاذات أقرب إلى الأماني منه إلى مبادئ ينبغي احترامها.
وليست هذه مجرد حكاية عن قادة يتملصون من المسؤولية؛ فوسائل الإعلام هي الأخرى واقعة في الورطة نفسها. في الماضي، كانت جرائم الحرب تتصدّر نشرات الأخبار؛ أما اليوم، فقصفٌ في خيرسون أو غزة يتزاحم مع مباريات ويمبلدون، أو فضيحة سياسية، أو طلاق أحد المشاهير. وجاءت وسائل التواصل لتزيد الطين بلّة، بخوارزمياتها التي لا تقدّم إلا ما نرغب فيه، أو ما نؤمن به سلفًا. نحن محبوسون في فقاعات منعزلة، تضيع فيها أخبار الأطباء المقتولين في السودان، وقوافل الإسعاف المدمّرة في غزة، وسط ضجيج الترفيه. وإذا لم يجد الخبر مكانًا بين رقصات “تيك توك” أو أهداف كرة القدم، فإنه يذهب أدراج الرياح. إنّ يقظتنا الجماعية قد راحت هباءً منثورًا.
والنتيجة؟ يتلاشى الغضب، وتصير المأساة كزينة على جدار، لا يلتفت إليها أحد. وكل جريمة جديدة، مثل قصف عيادات الولادة، واغتيال المسعفين، وتدمير وحدات العناية المركزة، تهبط بأثر أخفّ من سابقتها، لأن قدرة الناس على الصدمة تبهت يومًا بعد يوم. وكلما تلاشت الخطوط الحمراء الإنسانية بلا عقاب، بدت الجرائم وكأنها أثر من زمن غابر.
يقول ساندمان، الذي لا يمل إثارة الجدل، إن الفشل لا يكمن في قلوبنا، بل في إدارة القيادات للغضب. فالاتصال في الأزمات ليس مجرد تمرير للمعلومات، بل هو إشعالٌ لضميرٍ أخلاقي. وحين يعجز القادة عن إظهار ضعفهم الإنساني، وعن إدانة المذنبين وفضحهم، فإنهم يفرغون آلة الغضب الشعبي من وقودها. إن تصريحات من قبيل: “ينبغي لنا…” و”يجب على العالم…” تلطّف الشعور بالمسؤولية لكنها تحكم على نفسها بالعبث. إذ إن الناس لا يستجيبون لخطاب بارد؛ بل يستجيبون للقائد الذي يبكي، أو يغضب، أو يعترف بضعفه ثم يقف صامدًا. لن تجد أحدًا يخرج في مسيرة استجابة لعبارات مبهمة وباردة، ولن تجد أحدًا يذرف دمعةً من أجل بيان صحفي.
فهل من الوارد أن نشعل الغضب من جديد؟ تكمن الإجابة في تغيير الرسالة والرسول والأسلوب. أقوى عملة متداولة اليوم هي السرد القصصي الشخصي الخام، غير المنقّح. هيا أبرِز حياة الأطباء وعائلاتهم، وموتهم ونضالهم. أرنا آخر رسالة واتساب لسائق سوداني، واليد المرتعشة لطبيب أطفال سوري، وممرضة قد أصابها اليأس في غزة. اجعل “الهجوم على الصحة” قصةً من لحم ودم، لا مجرد خانة في جدول بيانات. اجعل الجمهور شهود عيان لا مجرد مشاهدين.
لكن الحل لا يقف عند هذا الحد. فعلى قادة الصحة والوكالات الإنسانية أن يستعيدوا معنى المخاطرة؛ فالتقدم لا يتحقق بلا جرأة. يُقال لهم: لا تسمّوا دولة ولا جماعة مسلّحة، ستفقدون الوصول أو تعرّضون الشركاء للخطر. غير أن النفور من المخاطرة لا يولّد إلا البلادة. فبدون الشجاعة، تتبخر حتى التوقعات الأخلاقية البسيطة أمام دخان المدافع. نحن بحاجة إلى قادة يثبتون عند اختبار حدود المعارضة المسموح بها، ويرفضون الصمت على الرغم من أنهم يعترفون بالخوف.
وهناك عجز بنيوي آخر: فالمنظمات متعدّدة الأطراف، وعلى رأسها الأمم المتحدة وأشباهها، حلّقت عاليًا في فضاء الدبلوماسية حتى غدت آثارها كرذاذ من “القلق” لا يبلل الأرض ولا يسقي الظمآن. في حين تبدو التحالفات الإقليمية أقدر على الفعل؛ إذ إن لها مصلحة مباشرة وتعرف مكامن النفوذ والسياسة. وإذا زُرع الغضب محليًا أمكن أن يتجذر إقليميًا ويصمد. هذه الأطر الإقليمية ليست مثالية، لكنها نافدة الصبر: فمستشفى يُقصف اليوم قد يجلب لاجئين غدًا، ويُشعل ارتدادات سياسية في الداخل. لذلك، على النشطاء وقادة الصحة أن يطرقوا هذه الأبواب، وأن يصوغوا تحالفاتهم مع الأبطال المحليين.
ولا تستهينوا أبدًا بالجمهور. فالغضب، ما إن يشتعل، يندفع سريعًا. وحين دوّت أنفاس جورج فلويد الأخيرة في أصقاع الأرض، تحوّل الغضب إلى فعل، وانتفضت مدن وقارات متباعدة. والدرس واضح: عالجوا الأزمات الكبرى في صورة مأساة إنسانية فردية، وتكلّموا بوضوح، وطالبوا بالمساءلة: “نحن الموقّعون أدناه نطالب بوقف قصف سيارات الإسعاف. وإليكم ما يمكنكم فعله ومن هم المسؤولون”.
لا شيء يضمن أن يثور الغضب في عالمٍ أنهكته المآسي، لكن الانسحاب إلى بلادة مهذّبة من قبيل: “على العالم أن…” يجعل الحرب على الصحة أمرًا عاديًا شأنه شأن تقلبات الطقس. إن الغضب كجمرٍ تحت الرماد، لا ينتظر مزيدًا من المآسي، وإنّما ينتظر قيادة أصلب، وقصص أكثر جرأة، وروايات تقرع الأبواب حتى تبدو وكأنها وقعت في البيت نفسه، فتجبر الناس على الاهتمام بها.
وحين تسقط عيادة أخرى، أو تدفع مسعفة حياتها ثمنًا، فاسألوا: من ذا الذي سيتكلم بصدق، ويغامر بالإساءة، ويُسمي الجناة بأسمائهم، ويروي القصة بشراسة تكفي لإشعال ألف قلب؟ هذا ما كان بيتر ساندمان ليطالب به، وهذا ما يستحقه العالم والجرحى. عندها فقط نرفع علامة الصليب الأحمر أو الهلال الأحمر فوق السقف علامةً على ملاذ آمن، لا مجرّد هدف آخر يتم تجاهله.
#الاتصال_في_الأزمات #الاتصال_القيادي #دبلوماسية_الصحة_العالمية #اتصال_المخاطر #الغضب #الطوارئ_الصحية #القانون_الإنساني_الدولي