تخطى إلى المحتوى الرئيسي

صياغة المستقبل: كيف تُذكي القمّةُ الوزارية العالمية للصحة النفسية في الدوحة جذوةَ العمل المحلي

الأحد, أكتوبر 26, 2025
صياغة المستقبل: كيف تُذكي القمّةُ الوزارية العالمية للصحة النفسية في الدوحة جذوةَ العمل المحلي

الدكتور سليم سلامة

لقد بدأت الصحة النفسية، أخيرًا، تنال ما تستحقّه من اهتمام بوصفها ركيزةً لرفاه الفرد والمجتمع. غير أن التحدّي الحقيقيّ يكمن في تحويل الحوارات رفيعة المستوى إلى تحسيناتٍ ملموسةٍ في حياة الناس، الأمر الذي يمثّل اختبارًا حقيقيًا لقدرة أنظمتنا وقادتنا وشراكاتنا الدولية. وقد جاءت القمّةُ العالميةُ الوزاريةُ السادسة للصحة النفسية، التي عُقدت مؤخرًا في الدوحة، وهي الأولى من نوعها في منطقة الشرق الأوسط، لتوفّر فرصةً نادرة لاجتماع الوزراء والخبراء والمناصرين من شتّى أرجاء المنطقة العربية وخارجها، تحت مظلة رؤية موحَّدة، وهي: “النهوض برعاية الصحة النفسية من خلال الاستثمار والابتكار والحلول الرقمية”. وقد أوضحت القمّةُ جليًّا أن الطموحات العالمية لا يكون لها شأنٌ إلا إذا ترسّخت في واقع المجتمعات المحلية وآمالها.

منذ اللحظة الأولى لافتتاح القمّة، استشعر المشاركون حجمَ التحدّي وضرورةَ العمل والتعاون. إذ إنّ ما يزيد على 300 مليون شخص بمختلف أنحاء العالم في حاجة ماسّة إلى المساعدة الإنسانية، من بينهم 66 مليونًا يعانون من حالاتٍ نفسية. وهذه الأرقام ليست مجرّد سطور في تقرير؛ بل هي وجوه لأطفال لا ينامون، وآباء أثقلتهم الهموم، ومسنّون يتحمّلون أعباءً ثقيلةً يصمتون عنها. أمّا القصص التي رُويت في أروقة القمّة وقاعاتها، فكانت بسيطةً وصادقةً وعميقة، إذ ذكّرتنا جميعًا بأن الصحة النفسية هي أساسُ قدرتنا على رعاية أنفسنا ومن نُحب.

وبدون الانشغال بمراسم واحتفالات، مضت النقاشات في الدوحة مباشرةً نحو الأسئلة العملية: ما الذي يمكن للدول أن تفعله حقًا؟ وكيف نجعل الدعم النفسي ضرورةً لا تقلّ عن حاجتنا إلى الغذاء والماء والأمان؟ وقد تجسّد هذا التوجّه في هيكل القمّة ذاته، إذ جُمعت الوفود والخبراء والممارسون في ستة مساراتٍ رئيسية ركّزت على الابتكار الرقمي لدعم الرعاية المتكاملة، والاستجابة الصحية العامة لتعاطي المواد المحظورة، وتمكين المجتمعات من إزالة الحرج الاجتماعي عبر الحملات الوطنية، ومنح الأولوية للصحة النفسية للأطفال والمراهقين، والاستجابة للاحتياجات في الأزمات الإنسانية، وتسريع الوصول إلى الخدمات.

وكان مستوى التفاعل في هذه الجلسات لافتًا. فعلى سبيل المثال، كشفت ورشة الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي في البيئات الإنسانية عن التعقيدات الهائلة أمام البلدان التي تشهد حروبًا أو كوارث. وبصفتي مشاركًا في النقاش، سلّطتُ الضوء على تنامي استعداد الدول لإدماج الصحة النفسية في الاستجابة للطوارئ، وعلى الحاجة إلى تكييف المقاربات الإنسانية بما ينسجم مع الواقع المحلي لكل دولة ومجتمع. وقد أوضحنا، أنا وبعض زملائي، أن التخطيط لا يمكن أن يرتكز على المخططات النظرية وحدها، بل يجب أن يتشكّل وفق احتياجات أكثر الفئات تأثرًا.

وعلى مستوى أجندة الصحة العالمية الأوسع، بدت القمة متطلّعةً إلى الأمام، وواقعيةً بشأن العقبات المقبلة. فالتجمّعات العالمية الأبرز في السنوات الأخيرة، مثل قرار جمعية الصحة العالمية رقم (77.3) وتجدّد التزام الأمم المتحدة، قد جعلت من الصحة النفسية قضيةً أساسيةً في صميم سياسات الصحة العامة. غير أن ممثلي الوفود في القمّة أجمعوا علىالإعلانات النبيلة وحدها لا تكفي ما لم تُترجَم إلى نتائج ملموسة على الأرض

ويتجلّى هذا التحدّي بوضوحٍ في منطقتنا، حيث زعزعت الصراعاتُ والنزوحُ والضغوطات الاقتصاديةُ كثيرًا مما كنّا نَعُدّه من المسلَّمات. وقد تناولت القمةُ هذه الحقائق بلا مواربة، ومن غير تجميل أو تلطيف، داعيةً كلّ وفدٍ إلى التساؤل عمّا يمكن تحقيقه إذا وُجِّه الاستثمارُ والابتكارُ بنيّةٍ صادقة وعزيمةٍ واضحة. كما أكّد كثير من المشاركين، لا سيّما القادمين من بلدان أنهكتها الأزمات، ضرورةَ إيجاد نُظمٍ مرنةٍ للتنفيذ والدعم، تُعيد المسؤوليةَ والمواردَ والثقةَ إلى أيدي القادة والمجتمعات المحلية.

وقد صيغت التوصياتُ التي خرجت بها الورش لتوجّه المرحلة التالية من العمل لكثير من الجهات. ففي الحوار حول الصحة النفسية الرقمية مثلًا، برزت بوضوحٍ قوّةُ التكنولوجيا ومخاطرُها، إذ باتت قادرةً على إحداث تحوّلٍ لا يقتصر على الرعاية السريرية، بل يمتدّ إلى دعم المجتمع والتدخّل المبكر. وهذا مجالٌ يتناوله “ويش” منذ سنوات؛ إذ تسهم مشروعاتُنا في بناء الأدلة والأدوات العملية لمواجهة الإدمان الرقمي وآثاره، لا سيّما بين الأطفال والمراهقين في المدارس والمنازل. وتبيّن لنا أن القائمين على رعاية الشباب من معلّمين وأولياء أمورٍ وقادةٍ مجتمعيين يحتاجون إلى ما هو أكثر من مجرّد الوعي بالأعراض؛ إذ لا بدّ أن يمتلكوا مهارةَ توجيه الحوار المجتمعي حول الاستخدام المسؤول للتكنولوجيا، وهو أمرٌ أشدُّ أهميةً في المجتمعات المتأثرة بالأزمات، حيث تغدو الأدواتُ الرقمية شريانَ حياةٍ تارةً ومصدرَ هشاشةٍ تارةً أخرى.

وفي أروقة القمّة، تكرّر الإقرارُ بأن الحرج الاجتماعي وسوء الفهم ما زالا من أشدّ العوائق أمام طلب المساعدة أو الاستمرار فيها. وقدّم المسار المخصّص لحملات الحدّ من الحرج الاجتماعي نماذجَ مُلهِمةً وواقعية؛ فقد حقّقت بعض البلدان نجاحًا حين تعاونت مع القيادات الدينية والمؤثرين المحليين الموثوقين في مجتمعاتها. كما أن إعادة تصميم الحملات لتصل إلى الناس وتلامس واقعهم، وإشراك الشباب بوصفهم شركاء حقيقيين، كل ذلك أحدث أثرًا ملموسًا وتغييرًا واضحًا في بعض المجتمعات. وفي هذا السياق، يواصل “ويش” التزامَه بتهيئة هذه المساحات للحوار المفتوح ودعم الأساليب المكيّفة القادرة على الوصول إلى مختلف الفئات السكانية في المدن والأرياف، بما في ذلك المجتمعات الهشّة.

وكانت مشاركتي أنا وزملاء آخرين في جلسة الصحة النفسية الإنسانية تذكيرًا بأن الجاهزية الحقيقية تقوم على الثقة والتنسيق السريع والتعلّم من التجربة باستمرار. فلا الوكالات الإنسانية أو الوزارات قادرةٌ على العمل منفردة؛ ولا الدعم النفسيّ المستدام سيتحقّق، بوصفه خدمةً دائمة لا حلًا مؤقتًا مجزّأً، إلّا حين تكون الأنظمة المحلية مهيّأة والمجتمعات مشاركة بفاعلية.

وكان من المشجّع أن نسمع وفود القمّة تتحدث بصراحةٍ عن تحدّيات التمويل التي لا تزال تُعيق أولويات الصحة النفسية. وكان الإجماع السائد هو أن المخصّصات المالية لا تزال ضئيلة، وأنه على الميزانيات العامة أن تخصص بندًا للصحة النفسية باعتبارها هدفًا جوهريًّا من أهداف التنمية البشرية. وهذا يستدعي ابتكارًا يتجاوز أنماط المساعدات التقليدية، مع التركيز أولًا على الاستثمارات المحلية.

وإلى جانب مسألة التمويل، كانت هناك دعوة، لعلّها الأشدّ إلحاحًا، إلى المساءلة الدائمة والتقييم المستمر. فقد اتفق الجميع على أن معيار النجاح ليس في وجود خطةٍ جديدةٍ أو استراتيجيةٍ مكتوبة، بل في إحساس الناس بتحسّنٍ حقيقيٍّ في حياتهم اليومية. وانطلاقًا من هذا المبدأ، حثّت نتائج القمّة الحكوماتِ والمنظماتِ والشركاءَ الدوليين على وضع أهدافٍ واضحة تتسم بالشفافية، وعلى التعلم المستمر من المجتمعات نفسها بما يضمن أن يبقى صوتُ الناس هو محور التغيير ووجهته.

وما ميّز القمّة المنعقدة في الدوحة، ناهيك عن قاعاتها ومداولاتها، هو الإحساس بالتجديد، والشعور بأننا أمام لحظةٍ جديرة بالتمهّل والتأمل والاختيار. فالوفود، على اختلاف انتماءاتها واختصاصاتها، غادرت وهي تحمل يقينًا مشتركًا بأن رعاية الصحة النفسية ليست وعدًا بعيد المنال، وإنما هي مسؤوليةٌ يوميةٌ يشترك فيها كلُّ فردٍ في المجتمع.

وإذ يتطلّع “ويش” إلى المستقبل، باتت هذه الدروس ترسم ملامح عملنا بالفعل. فبحوثُنا ومشروعاتُنا في ميدان الإدمان الرقمي والصحة النفسية في مناطق النزاع تتكيّف وتتوسّع بالشراكة مع المؤسسات على مختلف المستويات. وتوجّهنا تأكيداتُ القمّة على أهمية المقاربات المحليّة المبنيّة على الأدلة، في حين تُلهمنا طاقةُ المشاركين الشباب وأفكارُهم لنظلَّ متجدّدين مع العالم المتغيّر من حولنا.

وغالبًا ما نميل بعد انتهاء القمم إلى الظنّ بأن الوثائق والبيانات كفيلةٌ بإحداث التغيير من تلقاء نفسها. غير أن الحقيقة، كما قيل مرارًا في الدوحة، هي أن التقدّم ينبع من العمل الدؤوب، والمراجعة الصادقة، والالتزام بمشاركة النجاحات والإخفاقات على حد سواء. إن المستقبل الذي ننشده، في العالم العربي وخارجه، رهينٌ بمدى شجاعتنا وصدقنا في إشراك الآخرين: القادة المحليين، والمعلمين، والمتطوعين، ومن يعيشون التجربةَ النفسيةَ ذاتهم، وذلك من أجل بناء الحلول معهم لا نيابةً عنهم.

إن تحويل مسار الصحة النفسية رحلةٌ طويلة وشاقة، غير أن ما شاع في الدوحة هو أن هذه الرحلة قد اكتسبت زخمًا جديدًا. والأهم من ذلك هو ضمان أن تترسّخ كل فكرةٍ جديدةٍ وتضرب بجذورها في موطنها. فالوعدُ بالاستثمار والابتكار والحلول الرقمية لن يُقاس بمدى تعقّد التكنولوجيا أو حجم الاستثمار، وإنما بالراحة والرعاية والدعم الذي يصل إلى مَن هم في أمسّ الحاجة إليه.

وفي نهاية المطاف، لا يُصنع التقدّم في وهج القمم العالمية وحدها، بل يُنسَج من خيارات يوميةٍ بسيطة، مفادها: أن نصغي بصدق، ونتعلّم بتواضع، ونصون كرامة كل إنسان. وإننا في “ويش”، وزملاؤنا في جميع أنحاء العالم، عازمون على المضيّ قدمًا في هذا الدرب، بصدقٍ وروحٍ جامعةٍ وأملٍ لا ينطفئ.