إعلان الأمراض غير المعدية: دفاعٌ براغماتيٌّ عن نصرٍ غير مكتمل

بقلم الدكتورة تسكين خان، مدير المحتوى والبحوث في مؤتمر القمة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية “ويش”
ها هو اجتماعٌ آخر رفيع المستوى للأمم المتحدة، وها هو إعلانٌ سياسيٌّ مطوَّلٌ آخر حول الأمراض غير المعدية. قد يبدو للمجتمع الصحي العالمي أن مشروع الإعلان السياسي بشأن الوقاية من الأمراض غير المعدية ومكافحتها وتعزيز الصحة النفسية طقسًا مألوفًا. ومع الطقس، يأتي النقد. بيد أنني بعدما طالعتُ مختلفَ الانتقادات، وجدتُ نفسي في موقفٍ طريفٍ قليلاً: إذ أتفق مع كثيرٍ منها، لكنّني لا أتفق مع الشعور العام بخيبة الأمل. وللحكم على هذه الوثيقة بإنصاف، لا بُدّ أن نفهم أولاً المسارَ المعقّد والمتشابك الذي خرجت منه.
فالأمانةُ المكلَّفةُ بصياغة هذا النص تعمل ضمن قيودٍ لا يراها معظم القرّاء. إذ إنّ هناك حدًّا صارمًا لعدد الكلمات، وحاجةً سياسيةً إلى تحقيق التوافق، ورغبةً من 194 دولةً عضوًا في أن توضع أولوياتُها في الحسبان. وليست هذه ورقةً أكاديميةً تكون فيها الدقةُ فوق كل اعتبار، بل هي وثيقةٌ تفاوضية قد تصبح فيها اللفظة أو الفاصلة ميدانًا للشدّ والجذب. والنتيجة هي حتمًا حلاً وسطًا وتسويةً منسوجة من خيوط الطموح والواقعية، بل وأحيانًا من التلطيف المستهجن.
وفي ضوء هذه المعطيات، سنجد أن هذا الإعلان ليس جيدًا وحسب، بل هو خطوةٌ مهمةٌ إلى الأمام.
الأمور الصائبة في الإعلان
لنبدأ بالإيجابيات. أحرزت الوثيقة تقدمًا ملموسًا جديرًا بالترحيب عندما أدرجت محورًا خاصًا بالنوع الاجتماعي، ولا سيما في الإشارة إلى وجود اختلافات في عرض أمراض القلب والأوعية الدموية بين النساء والرجال، بما يتجاوز مجرد المجاملة بالكلمات. أضِف إلى ذلك الالتزام بثلاثة أهدافٍ محددةٍ وقابلةٍ للقياس ضمن “المسار السريع”، وهي: خفض عدد مستخدمي التبغ بنحو 150 مليون مدخن، ووضع 150 مليون شخص إضافي ممن يعانون من ارتفاع ضغط الدم تحت السيطرة، وتمكين 150 مليون شخص إضافي من الحصول على الرعاية الصحية النفسية، وكل ذلك يوفِّر مجالاً للمساءلة أوضح مما وفَّره أيُّ إعلانٍ سابق. كما أن إدراجَ صحة الفم، وآثار تلوث الهواء، والإيماءات إلى الصحة الرقمية ومراقبة البيانات، هي أيضًا إضافاتٌ إيجابيةٌ وضروريةٌ لأجندة الأمراض غير المعدية.
عيوب لا يمكن تجاهلها
الانتقاداتُ لها ما يبرّرها. فالصحة النفسية، رغم حضورها في العنوان، غالبًا ما تبدو كركيزة ثانوية لا مكوّنًا متكاملاً. كما أن الصياغة بشأن فرض الضرائب على المنتجات الضارّة كالكحول والأطعمة غير الصحية قد جرى تلطيفها لتصبح “النظر في فرض ضرائب أو زيادتها”، وهي صياغة بعيدة كلَّ البعد عن اللغة القوية الحازمة المطبّقة على التبغ. وبخلاف الأهداف الرئيسية الثلاثة، تبدو الأهداف الأخرى أقل قابليةً للقياس. أمّا المحددات التجارية للصحة، على الرغم من تناولها، فقد عولجت بحذرٍ شديد يتجنب المواجهة المباشرة مع الصناعات التي تجني الأرباح من الأمراض.
لكن لنعد خطوةً إلى الوراء وننظر إلى عالم الصفقات الذي نعيشه. أهذا يدهشنا حقًا؟ هل يدهشنا أن نرى المصالح التجارية تدافع بضراوة عن أسواقها؟ وهل يدهشنا أن سياسات الضرائب، التي تمثّل كابوسًا سياديًا لدول عديدة، قد جرى تلطيفها من أجل ضمان التوافق؟ وهل يدهشنا أن مئات الأمراض غير المعدية قد أغفِل ذكرها؟ كلا. ففي ميدان الدبلوماسية المتعلقة بالصحية العالمية، تتصادم الجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية الوطنية باستمرار مع مثاليات الصحة العامة، ويبدو أن هذا القدر من الطموح هو السقف، وليس الحد الأدنى.
وهذا يقودنا إلى نقطة أعمق: لعلّ المشكلات التي نعاني منها، نحن مجتمع الأمراض غير المعدية العالمي، لا تنبع من هذا الإعلان بقدر ما تنبع من التأطير التاريخي للتحدي نفسه. فلقد أدرجنا أمراضًا شديدة التباين في مسارات العلاج والرعاية تحت عنوانٍ مبسّطٍ هو “الأمراض غير المعدية”. فعلنا ذلك لغرض التسهيل الإداري والدعائي، ولبناء زخم كبير بما يكفي لمواجهة هيمنة الأمراض المعدية على الأجندة العالمية.
صحيحٌ أن عوامل الخطر المشتركة، مثل التبغ، والكحول، والنظام الغذائي غير الصحي، وتلوث الهواء، تمثّل نقطة انطلاقة جيدة، لكنها في نهاية المطاف مجردُ دلائل بديلة لمحددات اجتماعية وتجارية أعمق تؤثر على جوانب الصحة كلها. وهذا النهج الاستعماري، المتمثل في تجميع ظروفٍ متنوعةٍ في فئةٍ واحدةٍ “للأمراض غير المعدية”، هو ما يجعل الصحة النفسية تبدو دومًا وكأنها فكرةٌ لاحقة؛ لأن مسارات الرعاية والوصمة والقياس الخاصة بها لا تتناسب بدقة مع خانة الأمراض غير المعدية. إذن، ليست المشكلة في أن الإعلان قد فشل؛ بل إن البنية الكاملة الذي يتعين أن يعملوا في إطارها مَعيبة بطبيعتها.
وبصفتي خبيرةً في ارتفاع ضغط الدم، هل أرى أن هدف 150 مليونًا هو أفضل ما يمكننا القيام به؟ قطعًا لا. بل جديرٌ بنا أن نكون أكثر طموحًا. هو رقم على كل حال، وربما شمّاعة تُعلَّق عليها البرامج ويتم تبرير التمويل من خلالها. وهذا في العالم الحقيقي لميزانيات الوزارات يعدُّ مكسبًا ملموسًا.
ومن ثم، فإن الضعف الحقيقي لهذا الإعلان ليس في دلالاته اللغوية، وإنما في علاقته بالواقع الراهن. إنه يدعو إلى عملٍ طموحٍ في عالمٍ يضجّ بالصراعات، ويقترح رعايةً متكاملةً في بلدانٍ ترزحُ تحت وطأة الديون (وللإنصاف، النصُّ أخيرًا يقرُّ بالحاجة إلى المساعدة الدولية). كما أنه يتصوَّر أنظمةً صحيةً مرنةً وسط أزماتٍ إنسانيةٍ طويلة الأمد تمزِّق تلك الأنظمة ذاتها يوميًا، ويذكرُ بالاسم الصندوقَ العالميَّ و”جافي” (التحالف العالمي للقاحات والتحصين)، وهما مؤسستان متعددتا الأطراف تكافحان من أجل الحفاظ على أهميتهما وتمويلهما لولايتهما التقليدية، ناهيك عن التوسع في عالم الأمراض غير المعدية.
نعيد القول بأن طموح المجتمع العالمي للأمراض غير المعدية يواجه خطرَ الانعزال عن الحقائق الوحشية للعالم الذي يسعى إلى تغييره. نحن نصوغ الإعلانات للعالم الذي نريده، لا للعالم الذي نعيشه. وهذه هي أكبرُ عبرةٍ خرجتُ بها.
لماذا يظل هذا الإعلان مهمًا
وهنا الحقيقة الناصعة التي لا تُذكر غالبًا: الساذج فقط هو من يؤمن بأن إعلانًا سياسيًا، أيًَّا كان، سيغيِّر الواقعَ وحده. ومن واقع خبرتي الميدانية في رعاية المرضى وتقديم المشورة بشأن برامج الصحة السكانية الوطنية، أعلم أن هذه الوثائق ليست عصًا سحرية تُصلح سلاسل الإمداد، أو تسدُّ الفجوات في التوظيف، أو توازن ميزانيات الوزارات، وأنها لا تطفئ حربًا أو تمحو ديون بلد، وأن العمل الشاق والمُضنِي للتنفيذ يحدث على الرغم من اللغة الفخمة التي يتم التفاوض بموجبها في نيويورك، وغالبًا ما يكون منفصلاً عنها تمامًا.
وعليه، يجب أن نغيّر المعيار الخاطئ في الحكم على هذه الوثائق. فغرضها ليس أن تكون دليلَ تشغيل مباشر، وقيمتها ليست في أن تتحوّل فقراتها تلقائيًا إلى رعاية عند سرير المريض.
غرضها الحقيقي ثلاثي الأبعاد:
أولًا، هي بمثابة تفويض للمناصرين. فالمسؤول في وزارة الصحة الذي يناضل من أجل تخصيص حصةٍ أكبرَ في الميزانية للأمراض غير المعدية يمكنه الآن الدخول في اجتماع مع وزارة المالية والإشارة إلى وثيقةٍ للأمم المتحدة اعتمدتها بلاده ووقَّع عليها رئيسُ دولته. إنها أداةٌ قويةٌ لمواجهة المعارضة الداخلية وإضفاء الشرعية على نضالهم لتغيير السياسات.
ثانيًا، هي إطارٌ للمساءلة، على ما فيها من نقص، وخاصة فيما يتعلق بثلاثيات 150 مليونًا المتعلقة بارتفاع ضغط الدم والتبغ والصحة النفسية. هي بمثابة المعيار الذي يتيح أمام منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات الأكاديمية، والوكالات الدولية أن تسأل الحكومات: “ما خطتكم لتحقيق التزامنا المشترك؟” إنها تمنحنا لغةً نستعين بها في قياس مدى التقدم من عدمه.
ثالثًا، وربما الأهم، هي بيانٌ للإجماع وبادرةٌ حسنة. ففي عالمٍ يتشرذم يومًا بعد يوم، تمثل هذه الوثيقة لحظةً نادرةً من الاتفاق العالمي، وتشير إلى أن العالم، على الورق على الأقل، ما يزال يؤمن بالتعددية، وبالحق في الصحة، وبالحاجة إلى التعاون لمواجهة هذه الأعباء. إنها منارة، وإنْ خَفَتَ ضوؤها، تذكِّرنا بما ينبغي أن نعمل من أجله.
هذا الإعلان جيّد، وهو أكثر تقدميةً وتحديدًا من سوابقه، ويوفر أدواتٍ جديدةً للمناصرين. لكنه أيضًا مرآةٌ تظهر حدود حوكمتنا عالميًا، وما يمكننا بلوغه بالكدح الدبلوماسي، وتلمّح إلى معارك أكبر وأكثر منهجية لم نحسمها بعد.
الإعلان ليس هو المشكلة؛ إنه عَرَض لها. المشكلة تكمن في بيئة الصحة العالمية التي تتسم بالتفاوض والتشرذم ونقص التمويل، والتي يتعين تنفيذ الإعلان ضمنها. وهنا نقول لصانعي السياسات والممارسين والمناصرين في مجتمع “ويش”: حان الوقت ليتحول تركيزنا من انتقاد النص إلى استخدامه. استعملوه أداةً في اجتماعات الميزانية، وفي جداول أعمالكم لإصلاح السياسات، وفي مناصرتكم للمرضى. استندوا إلى أهدافه للمطالبة بالعمل، وإلى إجماعه لفتح الأبواب، وإلى رؤيته لبناء التحالفات. فقوّته لم تكن أبدًا في كلماته، بل في أيدينا، وأيدي العاملين على الأرض الذين يعرفون كيف يحوّلونها إلى العمل الجماعي الذي تستحقه مجتمعاتنا.