تخطى إلى المحتوى الرئيسي

أصوات من واقع التجربة: حوار مع شارلين سونكل حول الدعوة العالمية للصحة النفسية

الإثنين, نوفمبر 10, 2025
أصوات من واقع التجربة: حوار مع شارلين سونكل حول الدعوة العالمية للصحة النفسية

بمناسبة توقيع مذكرة التفاهم بين مؤتمر القمّة العالمي للابتكار في الرعاية الصحية “ويش” وشبكة النظراء العالمية للصحة النفسية (GMHPN)، أسعدنا أن أجرينا هذا الحوار مع شارلين سونكل، المؤسِّسة والرئيسة التنفيذية للشبكة، والمناصرة الدؤوبة لإدماج أصوات ذوي الخبرات الحية في سياسات الصحة النفسية.

س1: تحدّثتِ يا شارلين كثيرًا عن رحلتكِ الشخصية مع الصحة النفسية. كيف شكّلت هذه التجربة الأساس الذي تقوم عليه شبكة النظراء العالمية للصحة النفسية؟

ينبع سبب وجودنا من الخبرات الحية ذاتها. كانت رحلتي درسًا قاسيًا يبيّن كيف يمكن للأنظمة، مهما حسُنت نواياها، أن تبدو غريبة ومجافية للواقع عندما لا تضع في صميم أعمالها وعلى رأس أولوياتها أصوات الناس الذين أنشئت أصلاً لخدمتهم. ولهذا، بنينا في شبكة النظراء العالمية للصحة النفسية نموذجنا بأكمله على مبدأ أساسي مفاده: أن الخبرات الحية ليست مجرّد إجراء شكلي أو إتمام واجب، بل هي الأساس المتين الذي يقوم عليه عملنا.

وهذا يعني أن كل قرار نتخذه مشبّع بالتحديات والطموحات والحكمة التي لا يدركها إلا من خاض التجربة بنفسه وعاش تحديات الواقع وتطلعاته. وقد رأينا بأعيننا الفارق العميق الذي يصنعه هذا النهج؛ فعندما تسهم الخبرات الحية في تصميم السياسات، تصبح التدخّلات أكثر إنسانيةً وواقعيةً وقربًا من الناس.

ويتجلّى هذا الالتزام في ممارسات واضحة:

أولاً، تحوّلٌ جوهري في الهوية. ففي شبكتنا، لا يُنظر إلى الأفراد باعتبارهم مجرّد متلقّين للرعاية أو عيّنات نجري عليها البحث، بل هم شركاء أساسيون وزملاء، ونقرّ بأن خبرتهم لا تقل أهميةً عن المعرفة الإكلينيكية أو الأكاديمية. إنهم حاضرون في الغرفة التي تُتخذ فيها القرارات، لا بصفتهم واجهةً رمزية، بل بصفتهم قادة فاعلين.

 وهذا يقودني إلى مبدأ: “لا شيء يخصّنا يتم من دوننا”. وهذا ليس مجرّد شعار؛ بل هو منهاج عملنا الذي يفرض إشراك أفراد مجتمعنا في عمليات صنع القرار كلّها. ولأننا حاضرون في المشهد، يمكننا رصد وتحديد العقبات المنهجية والمجتمعية، والثغرات في الخدمات، واللغة الموصومة، والسياسات غير الواقعية التي قد لا يلحظها غيرنا، فنكون دائمًا في موقع يتيح لنا تفكيك البُنى التي تعيق التقدّم.

وفي المحصلة، يتيح لنا هذا النهج الذي تقوده الخبرات الحية تصميم تدخلات سريعة الاستجابة وذات أثرٍ نافع للجميع. فبانطلاقنا من الاحتياجات الدقيقة الواقعية للأفراد، نصوغ حلولاً أكثر فاعلية، ونعزّز قدرًا أكبر من الثقة، ونبني منظومةً للصحة النفسية لا تنحصر في علاج المرض، بل تدعم الإنسان كاملاً في رحلته نحو العافية. هكذا نضمن أن يكون عملنا من أجل المجتمع بحق، لأنّه نابع من المجتمع.

س2: ما الدروس التي استخلصتها شبكة النظراء العالمية للصحة النفسية بشأن قوة الخبرات الحية ومزالقها عند دمجها في صياغة سياسات الصحة النفسية؟

تعلّمنا في هذه الشبكة أن إدماج الخبرات الحية عملية تحويلية بقدر ما هي معقّدة. وأهم درسٍ تعلمناه هو أن الإدماج الحقيقي، وإن كان يقود إلى سياسات صحية نفسية أقوى وأكثر فاعلية، فإنّه يتطلب جهدًا دؤوبًا ومدروسًا. كما أن خطر التمثيل الرمزي  يمثل تحديًا كبيرًا؛ فمجرّد وجود صوتٍ ذي خبرةٍ حية في الغرفة لا يكفي وحده.

ثبت لدينا أن إدماج أصحاب الخبرات الحية أمرٌ غير قابل للتفاوض. غير أن العمل الأهم يكمن في ضمان أن يكون هذا الإدماج ذا معنى. وهذا يعني العمل الجاد على تهيئة بيئات آمنة وميسّرة للتفاعل، بحيث يتمكن الأفراد من الإسهام فيها وهم في مأمن من اللغة الموصومة والتمييز واختلال التوازن. الأمر برمّته يتعلق بالانتقال من نموذج الاستشارة إلى نموذج الشراكة الحقيقية.

وهذا يقودنا إلى مبدأ العمل الأساسي لدينا: أن نعمل معًا ونتعلّم معًا. هذا النهج التعاوني هو الذي يطلق القوة الحقيقية للخبرة الحية. فهو يتيح لنا أن نتحدى الواقع السائد جماعيًا، ونصمّم سياسات لا تقتصر على كونها سليمةً من الناحية النظرية، بل تكون أيضًا عملية وإنسانية ومستجيبة حقًا لاحتياجات المجتمع. وإنها لرحلة مجهدة وتتطلب مراجعةً مستمرةً، ولكنها المسار الوحيد لبناء منظومة تصب في صالح الجميع.

س3: تمثّل الشراكة مع “ويش” فصلاً جديدًا في رحلة شبكة النظراء العالمية للصحة النفسية. ما الفرص الفريدة التي ترونها في هذا التعاون، وكيف تأملون أن يدفع الأثر قدمًا؟ @@

تمثّل الشراكة الجديدة مع “ويش” فصلًا مثيرًا للغاية بالنسبة للشبكة العالمية للأقران في الصحة النفسية. فنحن نرى فرصة فريدة وقوية في التقاء نقاط القوّة المتميزة لمنظمتينا. فمؤتمر “ويش” يحمل معه قدرة استثنائية على جمع أصحاب القرار، ومنصة عالمية، وتركيزًا عميقًا على الأدلة والابتكار في سياسات الرعاية الصحية. فيما تأتي شبكة النظراء العالمية للصحة النفسية بالعنصر الأساسي، الذي غالبًا ما يكون مفقودًا، ألا وهو: الخبرات الحية المنظّمة، والاستراتيجية التي تنبع من الخبرات الحية.

يتعلق هذا التعاون في جوهره بتوسيع نطاق تأثيرنا الجماعي. فمن خلال الجمع بين الدقة العلمية والامتداد العالمي لـمؤتمر “ويش” وبين نموذجنا الذي ينطلق من القواعد الشعبية ويقوده النظراء، يمكننا الدفع نحو معيار جديد في الصحة النفسية، معيار تُثريه الخبرات الحية بعمق واستمرارية، إلى جانب السياسات القائمة على الأدلة. فمعًا، يمكننا أن نضمن أن حلول الصحة النفسية تُصمم مع المجتمعات التي ننوي خدمتها، وليس من أجلها، ومنذ اللحظة الأولى.

أما الفرص المحددة، فهي واسعة النطاق. نتصور تبادلًا للمعرفة يرتقي بحركة النظراء إلى الساحة العالمية، ومناصرةً مشتركة تدعم هذا النهج المتكامل لدى قادة العالم، وفرصًا تعليمية تسعى إلى تسد الفجوة بين البحث العلمي والحكمة المستقاة من الخبرات الحية. هذه الشراكة هي فرصة لنُبرهن، عالميًا، على أن أكثر أنظمة الصحة النفسية فاعلية وإنسانية هي الأنظمة التي تُبنى على أساس الشراكة الأصيلة بين العلم والخبرات الحية.

س4: من واقع خبرتكم، ما أبرز التحديات التي تواجه المنظمات التي يقودها النظراء في مجال الصحة النفسية عالميًا؟

بناءً على عملنا العالمي في الشبكة، نرى تحديات عديدة متجذرة ومترابطة تواجه المنظمات التي يقودها النظراء.

أكثر هذه التحديات إلحاحًا هو، بلا شك، تحدي التمويل والاستدامة. فكثير من المنظمات التي يقودها النظراء تكون شعبيةً بطبيعتها، وتعمل بميزانيات محدودة ومنح قائمة على المشاريع، ما يجعل التخطيط طويل الأجل وتحقيق الأثر أمرًا صعبًا للغاية. ويرتبط ذلك بضعف المصداقية والدعم المؤسسي من أنظمة الصحة التقليدية والمانحين، الذين قد لا ينظرون إلى الخبرات الحية باعتبارها مصدرًا مشروعًا للخبرة.

وهذا يقود إلى التحدي الرئيسي الثاني، وهو: المعركة المستمرة ضد التعبيرات الوصمية المتأصلة، سواءً داخل المجتمعات، أو الأهم من ذلك، داخل قطاع الصحة نفسه. ما زلنا نعمل لإقناع صانعي السياسات والممولين بأن “الخبرة” لا تنتهي عن حدود الحصول على شهادة إكلينيكية. فغالبًا ما تُستبعد وتُهمَّش حكمة ذوي الخبرات الحية ومهاراتهم المتفرّدة، فيُقصَون عن طاولات صنع القرار.

ولمواجهة ذلك، يصبح بناء القدرات ضرورة حتمية. علينا تنمية جيل جديد من قادة النظراء بمهارات المناصرة والإدارة والقيادة، أضف إلى ذلك ضرورة بناء الشراكات بين القطاعات. فمن خلال التوافق مع المؤسسات الأكاديمية ومقدّمي الرعاية الصحية والهيئات العالمية، يمكننا بناء المصداقية وتأمين الموارد وإنشاء البنية التحتية المستدامة اللازمة لحركة النظراء، لا لمجرد بقائها، بل لازدهارها وتوسيع أثرها.

س5: في رأيكم، كيف يبدو الإدماج الفاعل للخبرة الحية في السياسات على أرض الواقع؟ وهل يمكنكم مشاركة مثال من عمل شبكة النظراء العالمية للصحة النفسية؟

يتحقق الإدماج الفاعل للخبرة الحية في السياسات عندما تُدمج خبرة التجربة الحية هيكليًا في دورة حياة السياسة بأكملها، بدءًا من التصميم والصياغة الأوليين وصولًا إلى التنفيذ، والأهم من ذلك، التقييم. وهذا يعني أن أصوات ذوي الخبرات الحية ليست فكرة لاحقة، بل هي مكوّن أساسي في نسيج السياسة نفسها.

وعلى الرغم من مشاركتنا في سياسات وخطط استراتيجية عديدة، فإننا لم نشهد بعدُ العملية المثالية للإدماج الفاعل للخبرة الحية، بالرغم من النوايا الحسنة لصانعي السياسات. فمن الناحية المثالية، يعني الإدماج الفاعل إشراك أصحاب الخبرات الحية المتنوعة منذ البداية، لا كاستشارة في اللحظة الأخيرة، بل بوصفهم مشاركين في صياغة المشكلات ووضع الحلول. ويتطلب ذلك التزامًا بتمكين حقيقي، يتجلّى في توفير تعويض عادل، ودعم لبناء القدرات، وسلطة حقيقية في اتخاذ القرار، لضمان قدرة المشاركين على تشكيل النتائج. يجب أن يكون هذا كله مدعومًا بنهج قائم على المبادئ في المشاركة، يُعلي من شأن الصحة النفسية والسلامة، والشفافية، وإتاحة الوصول، مما يهيئ منصة يمكن من خلالها لمجموعة واسعة من الأصوات أن تسهم بفاعلية دون خوف من الوصم أو التجاهل. هذه الشراكة الممنهجة والقائمة على الاحترام تتجاوز الشكلية لتصوغ سياسات تتسم بالشرعية والتوافق القوي مع احتياجات الواقع.

س6: كيف تتوقعين تطوّر “حركة النظراء” في السنوات الخمس المقبلة، خاصة مع الشراكات التي تعقدونها مع “ويش”؟

أرى حركة النظراء مقبلةً على تطور عميق وضروري يجعلها مهندسًا لا غنى عنه في منظومات الصحة النفسية. وتمثّل شراكتنا مع جهة رائدة مثل “ويش” محفزًا قويًا لهذا التحوّل. فمن خلال مواءمة مصداقيتنا الدولية بوصفنا منظمةً يقودها ذوو الخبرات الحية مع منصتكم العالمية، يمكننا دمج الخبرات الحية بفاعلية في صلب الأنظمة، على نحو يجعلها مكوّنًا أصيلًا لا إضافة اختيارية في السياسات الصحية الأخلاقية والفاعلة.

سيكون هذا التعاون مفتاحًا للارتقاء بمناصرتنا ودفع الابتكار على نطاق أوسع. سنتجاوز مجرد الحصول على مقعد على الطاولة إلى المشاركة في تصميم الطاولة نفسها. وستكون النتيجة الملموسة لذلك جيلًا جديدًا من القادة داخل الحركة: نتوقع أن نرى مزيدًا من الباحثين الذين يقودهم النظراء في تشكيل قاعدة الأدلة، ومزيدًا من صانعي السياسات ذوي الخبرات الحية في الحكومات والوكالات الصحية العالمية، وكذلك أنظمة صحية نفسية تعكس التنوع الغني والحكمة المستخلصة من الخبرات الحية التي أنشئت لخدمتها.

س7: ما رسالتكِ المختصرة لصانعي السياسات والمؤسسات المتردّدين في تبنّي شبكات النظراء؟ ولماذا أصبح إعطاء الأولوية للخبرة الحية أمرًا ملحًّا الآن؟

رسالتي هي الآتية: إن الاستمرار في تصميم سياسات الصحة النفسية دون إشراك محوري لمن عاشوا التجربة هو السبب الأوحد وراء فشل هذه الأنظمة غالبًا، وهدر الأموال المخصصة للصحة. فالخبرات الحية ليست مجرد قيمة مضافة تجميلية؛ بل هي العدسة الحاسمة التي تكشف الفارق بين الإطار النظري والحل العملي والإنساني. هي الفارق بين منظومة يتحمّلها الناس على مضض، وأخرى يثقون بها ويقبلون عليها. وفي زمن تتزايد فيه الضغوط على الموارد وتتفاقم الاحتياجات، فإن تجاهل هذه الخبرة الأساسية يعد خطئًا ونهجًا غير قابل للاستمرار، بل يكلّفنا على المدى البعيد، مزيدًا من المعاناة الإنسانية وإهدار الموارد العامة. إن إعطاء الأولوية للخبرة الحية ملحّ الآن، لأن الحلول الفاعلة لا يمكن أن تُبنى من أجل مجتمع، بل يجب أن تُبنى معه.

س8: أخيرًا، كيف يبدو “اليوم الجيّد” بالنسبة لكِ وللشبكة العالمية للأقران في الصحة النفسية؟

“اليوم الجيّد” بالنسبة لي هو بلا شك أن أرى أصحاب الخبرات الحية، ولا سيّما أولئك الذين لم تتح لهم فرصة من قبل للإسهام بخبرتهم، وهم يخرجون إلى الساحة ليقدّموا النصح لصنّاع السياسات والجهات المعنية حول كيفية تحسين جودة حياة المجتمعات، ثم أسمعهم يقولون إن صوتهم كان ذا قيمةٍ حقًا.

وهو أن أشهد صدعًا صغيرًا لكنه مؤثرٌ في جدار الوصم، سواءً عبر مقال إخباري، أو حوار مجتمعي، أو مؤسسة تغير سياستها لتلزم نفسها بالإدماج الفاعل والحقيقي للخبرة الحية في جميع عملياتها.