لماذا تحتاج منطقة الشرق الأوسط «مدنًا صحية»؟

الدكتورة سانجيتا سينغ، استشاري في ويش
تسعى مدن الشرق الأوسط إلى ترجمة رؤاها الطموحة إلى واقع يومي يعزّز الحياة الصحية، وتزداد معه الشوارع أمنًا، والمساحات الخضراء اتساعًا، وجودة الهواء نقاءً، وأسلوب الحياة نشاطًا. ولكن الطموح وحده لا يكفي، فبلوغ النجاح يلزمه خطط عملية، تراعي جوانب الصحة والتخطيط الحضري والنقل والبيئة، ثم تقيس أثر هذه الخطط على حياة الناس. في هذه التدوينة، أجتهدُ في تلخيص نتائج إحدى المراجعات التي أجريت مؤخرًا للجهود المبذولة في المنطقة لبناء «مدن صحية»، محاولةً الوقوف على عوامل النجاح، ونقاط الضعف، وكيف يمكن لصناع السياسات تسريع وتيرة التقدم، مع مراعاة البعد الثقافي ومبادئ العدالة والاعتماد على الأدلة.
تُكثف مدن الخليج استثماراتها في الموارد، وتقنيات المدن الذكية، ومشاريع البنية التحتية العملاقة. وتزداد جدوى هذه الاستثمارات عندما تأخذ بعين الاعتبار المجتمع المحلي وتُنفَذ وفق أهداف صحية واضحة، إذ تشير الدراسات إلى أنه برغم التطور السريع الذي قد تشهده القدرات الاقتصادية والأدوات الرقمية، يظل تأثيرها الحقيقي أقل مما يجب، ما لم يشارك السكان منذ البداية في تحديد الأولويات وصياغة السياسات.
تعتمد المدن المستدامة والصحية في المنطقة دائمًا على المشاركة المجتمعية والوعي الثقافي، ويتجلى ذلك في أشكال عدة، منها شبكات التطوع الرسمية، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني، وتخطيط المدن الذي يراعي النوع الاجتماعي. فعندما يعبر تصميم المدن عن بيئته المحلية (كأن يأخذ في الاعتبار على سبيل المثال الأجواء الحارة، والعقيدة، والعائلات الممتدة)، تصبح الجهود التنموية التي تبذلها هذه المدن أكثر تأثيرًا ومرونةً في مواجهة التحديات.
تعد البنية التحتية الخضراء، والغابات الحضرية، والمناطق المصممة لإدارة الفيضانات قادرة على التصدي لتغيّر المناخ، وتحسين الصحة النفسية، ودعم العدالة المجتمعية، كما تشجع المسارات الآمنة المخصصة للمشي وركوب الدراجات الناسَ على ممارسة النشاط البدني وتقلّل من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، لاسيما إذا كان إنشاء هذه المسارات متوافقًا مع سياسات الدولة الخاصة بالنقل والصحة.
ومن العقبات الشائعة التي تواجهها «المدن الصحية» تشابك الأدوار بين الجهات المسؤولة عن الصحة والتخطيط العمراني والنقل. وبدون وجود جهة رسمية مركزية تُشرف على تطبيق مفهوم «دمج الصحة في جميع السياسات»، قد تتعثر المبادرات أو تتكرر بلا فائدة. لذلك، تحتاج المدن إلى هيئة دائمة لتنسيق الجهود، على أن تتمتع هذه الهيئة بالسلطة التي تمكنها من تحديد الأهداف المشتركة وتعزيز وتيرة التقدّم.
وعلى جانب آخر، تفتقر العديد من البرامج المعنية إلى وجود بيانات أساسية أو معايير موحدة أو نظام متابعة روتيني. وبدون أهداف قابلة للقياس، مرتبطة تحديدًا بالنوع الاجتماعي والعمر والمنطقة السكنية، لا يستطيع القادة إثبات جدوى المبادرات أو تعديل مسارها عند الحاجة، إذ لا تقل أهمية تفعيل آليات الرقابة والمتابعة عن وجود الحدائق والمسارات.
وبدورها، يمكن للمنصات الرقمية أن تعزز قدرة المواطنين على الإبلاغ عن الملاحظات المتعلقة بالمدينة ومساعدة القادة في اتخاذ قرارات مدروسة، لكن ذلك لن يتحقق إلا إذا توفرت حماية البيانات الشخصية للمواطنين، مع ضمان دقة البيانات المبلَّغ عنها، وإتاحة استخدام المنصات أمام الجميع. كما يعد بناء قدرات فرق العمل في البلديات أمر أساسي.
ممارسات ناجحة: خارطة طريق عملية لقادة المدن
- إنشاءمجلس رسمي لإدارة المدن الصحية
إنشاء هيكل إداري موحد لتنسيق جهود قطاعات الصحة، والنقل، والتخطيط العمراني، والبيئة، والمالية، على أن يجتمع بانتظام، ويضع أهدافًا صحية تشمل المدينة بأكملها، ويقدّم تقارير عامة للجمهور، إذ يشكل ذلك حجر الأساس لتطبيق مفهوم «دمج الصحة في جميع السياسات» ويضمن الحصول على دعم سياسي مستمر للمبادرات الصحية.
2( توحيد المؤشرات ونشر ملخصات الأداء
وضع مجموعة أساسية من المؤشرات لقياس العوامل المؤثرة في «صحة المدينة»، مثل النشاط البدني، وسهولة الحركة، والتعرض للحرارة، وجودة الهواء، والوصول إلى المساحات الخضراء، ومعدلات الإصابات، مع تقسيم البيانات حسب الفئات لضمان تحقيق العدالة. هذا إلى جانب إنشاء نظام متابعة دوري يتوافق مع أهداف التنمية المستدامة، ونشر ملخصات الأداء فصليًا لمراقبة التقدم المستمر وضمان الاستمرارية.
(3 توسيع استخدام الحلول التي أثبتت نجاحها
منح الأولوية لوسائل النقل التي تتطلب نشاطًا بدنيًا، وذلك من خلال بناء أرصفة متصلة، ومسارات مظللة، ومعابر مشاة آمنة، إلى جانب استخدام حلول تستند إلى الطبيعة، مثل إنشاء الحدائق، والأودية، والغابات الحضرية، بما يضمن سهولة الوصول لأماكن الاحتياجات اليومية في مدة زمنية لا تتجاوز 15 دقيقة. كما يُوصى باستخدام نماذج المحاكاة لتحديد المناطق التي تحقق فيها هذه الاستثمارات أكبر قدر من الفوائد الصحية.
(4الاستخدام الرشيد للتكنولوجيا
تطوير تطبيقات تتيح للمواطنين إرسال ملاحظاتهم، واستخدام أنظمة «إنترنت الأشياء» في المتابعة، وذلك ضمن منظومة حوكمة قوية تُحدِّد ملكية البيانات وسياسات الخصوصية، وتمكّن القيادات من تحليل المعلومات واتخاذ القرارات المناسبة. ويُستحسن البدء بمبادرات صغيرة، ثم تطويرها تدريجيًا، مع مشاركة الدروس المستفادة.
(5التمويل المستدام
تنهار مبادرات المدن الصحية إذا لم يتوفر لها مصدر تمويل ثابت. ويوصى بجمع التمويل من مصادر متعددة، تشمل ميزانيات القطاعات المختلفة والصناديق المخصصة للصحة والتمويل المخصص للمشاريع التنموية، إلى جانب الاستفادة من قيمة الأراضي الناتجة عن التحسينات الحضرية. كما يجب تقييم العائد على الاستثمار لتظل البرامج مستمرة، ولا يؤثر فيها تغيّر الظروف السياسية.
يُسلِّط هذا الملخص الضوء على الاتجاهات الواعدة في دول مجلس التعاون الخليجي والدول غير الأعضاء في المجلس. ففي المدن السعودية، التي تحرز تقدمًا ضمن شبكة المدن الصحية التابعة للمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، تبرز أهمية توافق المبادرات الصحية مع السياسات الوطنية (مثل رؤية 2030) ووجود شبكات قوية للمتطوعين. كما تعمل قطر، على سبيل المثال، على تطوير مفهوم الشيخوخة الصحية من خلال خطة مدروسة تركز على الأفراد، حيث قامت بتكييف أداة فحص «الرعاية المتكاملة لكبار السن» التابعة لمنظمة الصحة العالمية لتلائم الاحتياجات المحلية، ودمجتها في نظام بيانات وطني يمكن الوصول إليه عند تلقى خدمات الرعاية الأولية والثانوية والتخصصية؛ كما دربت فرقًا متعددة التخصصات وأطباء لإدارة عيادات «الرعاية المتكاملة لكبار السن» المجتمعية، وأدخلت فحوصات السمع والبصر ضمن الفحوصات الروتينية لكبار السن، إلى جانب إعداد خطة وطنية للتعامل مع الخرف، والتعاون مع معهد تحسين الرعاية الصحية لإنشاء نظام صحي صديق لكبار السن، وإنشاء مركز تعاون مع منظمة الصحة العالمية للشيخوخة الصحية والخرف. وفي مناطق أخرى، مثل الأردن ولبنان وعُمان، أظهر النهج القائم على المشاركة المجتمعية والشراكات الدولية إمكانية تحقيق النجاحات المنشودة، خاصةً عند تحسين مسارات المشي في المدينة وتحديد أهداف قابلة للقياس.
تنجح الجهود العملية للمدن الصحية عندما تتحول من «مشاريع» منفصلةإلى نظام ديناميكي يستمع لآراء السكان، ويقيس المؤشرات المهمة، ويستجيب باستمرار للتغيّرات. وتتمتع منطقة الشرق الأوسط بنقاط قوة فريدة تمكنها من التصدي لهذا التحدي، وأبرزها الحشد السريع للموارد، وتصميم المدن لمواجهة الظروف المناخية القاسية، والاستفادة من النسيج الاجتماعي المتماسك. ثم تأتي بعد ذلك الحوكمة عبر إنشاء منظومة قيادة رسمية مشتركة بين القطاعات، ودمج استخدام البيانات في جميع جوانب التخطيط والتنفيذ، بحيث يراعَى في كل حديقة ومسار وسياسة تشريعية تعزيز صحة السكان. وتستطيع المدن التي تعتمد هذا النهج تحويل الرؤى إلى رفاه اجتماعي ينعم به السكان يوميًا، بسرعة أكبر وبشكل أكثر إنصافًا.
كما تركز الخطط الاستراتيجية الفعالة للمدن في الشرق الأوسط على: (1) التنسيق الرسمي بين القطاعات المختلفة (2) توحيد المؤشرات ونشر ملخصات الأداء (3) توسيع استخدام الحلول التي أثبتت نجاحها في مجال النقل والحلول القائمة على الطبيعة (4) الإدارة الرشيدة للتكنولوجيا (5) التمويل المستدام. ولكل من قادة المدن والهيئات الصحية والمخططين ومنظمات المجتمع المدني دور – ضمن منظومة متابعة مشتركة – لتحقيق هذه الأهداف.
نبذة عن كاتبة التدوينة
الدكتورة سانجيتا؛ استشاري في «ويش»، وتركز في عملها على صحة المدن، وحوكمة النظم، وقياس الأداء. كما تتعاون مع قادة المدن، وصناع السياسات، والأوساط الأكاديمية، والجهات الصحية في إعداد خطط للمدن الصحية، تقوم على الأدلة، وتتمحور حول الإنسان.
Similar Blogs AR
أصوات من واقع التجربة: حوار مع شارلين سونكل حول الدعوة العالمية للصحة النفسية
اقرأ أكثر...
بعيدة عن الضوء وعصية على الكسر: أزمة السودان والقوة النسائية الصامتة
اقرأ أكثر...