تخطى إلى المحتوى الرئيسي

بعيدة عن الضوء وعصية على الكسر: أزمة السودان والقوة النسائية الصامتة

الأحد, نوفمبر 9, 2025
بعيدة عن الضوء وعصية على الكسر: أزمة السودان والقوة النسائية الصامتة

إسراء مجدي محمد طه

في صباح الخامس عشر من أبريل لعام 2023، أضاء هاتفي برسالة، بعثتها لي شقيقتي من الخرطوم، بعد أن خرجت لتوها من عيادة طبيب بصحبة أطفالها. تقول الرسالة: “ثمة إطلاق نار وقصف أمامنا مباشرة، أشعر وكأنها نهاية العالم.”

لم يخطر ببال أي منا أن تلك اللحظة قد تكون بداية لصراع يمتد عبر ربوع السودان لأكثر من 900 يوم، ولم تهدأ حدته بعد. لقد سطر هذا اليوم أولَ فصل من مأساة عنوانها الحزن والفقد، في بلد مزقته الأزمات المتراكمة على مدار عقود. ومنذ ذلك الحين، أحكمَ العنفُ قبضته على جميع مفاصل الحياة؛ على العالقين في أحيائهم، والمشردين والنازحين، وهؤلاء الذين يعيشون خارج السودان أمثالنا، حتى صرنا نتساءل عما إذا كان السودان الذي نعرفه سيتحول لمجرد ذكرى.

لم تمض ساعات قليلة على اندلاع القتال، حتى وجدت العائلات في أنحاء البلاد نفسها أمام خيارات بالغة الصعوبة. قرر بعضهم الفرارَ بما استطاعوا من متاع، ظناً منهم أن الغيابَ لن يطول إلا أياماً معدودات، فيما آثرت عائلات أخرى البقاء، ووراء كل قرار كانت هناك قصة عنوانها الحب والواجب والإيمان. يقدس السودانيون الروابطَ المجتمعية، فلو أن أحدًا من كبار العائلة رفض أن يغادر البيت أو أن يفارق موضعَ دفن أحبائه، يحذو حذوه في الغالب من هم أصغر منه سناً. هذه السلوكيات المشبعة بالوفاء أشبه بخيوط متينة تشدُ أوصال المجتمع السوداني، ليظل الشعور بالتكاتف يحمي أبناءه، حتى لو عصفت الحرب بشوارعهم وقراهم.

وصل الحال بالسودان اليومَ أن اجتمعت فيه كل مظاهر الهشاشة من صراع وجوع ومرض وأزمات مناخية، وزادها سوءًا ضعف الاستجابة الإنسانية التي تفتقر للاهتمام والموارد. لقد تسببت الأزمة في حدوث أكبر حركة نزوح في العالم، بعد أن اقتلعت أكثر من 12 مليون إنسان من ديارهم، وألجأت 30 مليوناً نسمة إلى طلب المساعدة، وحرمت 17 مليون طفل من التعليم. كارثة هائلة خلفتها الحرب في السودان، ومع هذا يكاد العالم لا يراها؛ فراغ لم يملأه إلا اللُحمة المجتمعية التي أضحت شريان الحياة في السودان، لتقف شاهدة على أنبل ما في النفس البشرية، في بلد يعاني أشد المحن.

غابت المؤسسات، فنهض السودانيون لتحمّل أعباء المسؤولية. أعادت لجان المقاومة، التي ولدت من رحم ثورة 2019، تعريفَ دورها لتتحوّل إلى غرف استجابة للطوارئ، وراحت هذه الشبكات المجتمعية القائمة على المتطوعين تنسّق، عبر مجموعات “واتساب”، كل ما يلزم، من تجهيز المطابخ لحملات التبرع والإسعافات الطبية والمساعدة في عمليات الإجلاء. كما تفتح هذه المبادرات، التي غالباً ما تنشط في مناطق لا تصلها الإغاثة الرسمية، أبواباً للدعم النفسي، حيث يقدم خبراء سودانيون، يقيم العديد منهم خارج البلاد، جلسات استشارية عن بعد لمساعدة المثقلين بآلام الحزن والفقد والصدمات، في شكل من أشكال التضامن الرقمي كان له الفضل في المحافظة على استمرار قنوات التواصل والرعاية.   

وفي ثنايا هذا المشهد، توارت جهود غرف الاستجابة النسائية للطوارئ؛ تلك الشبكات المجتمعية التي نشأت من منطلق الإيمان بأن النساء والفتيات يتحملن العبء الأثقل من ويلات الحرب، وأن صحتهن وسلامتهن وكرامتهن كثيراً ما تُهمل.

في أرجاء السودان اليوم، تقبع الحرب جاثمة على أجساد النساء وأرواحهن. تشير تقارير الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية إلى تصاعد وتيرة العنف القائم على النوع الاجتماعي، بينما تواجه الناجيات عقبات يكاد يستحيل معها الحصول على الرعاية والأمان. ففي مدن محاصرة مثل الفاشر، تعاني النساء آلام المخاض على التراب أو في ملاجئ مؤقتة بلا ماء نظيف أو أدوات معقمة. لقد انهار النظام الصحي، وارتفعت وفيات الأمهات ارتفاعاً حاداً، وصار الحصول على خدمات الصحة الإنجابية والنفسية شبه مستحيل، بل حتى الوصول إلى عيادة طبية أصبح نوعاً من المخاطرة بالحياة، لما يتطلبه من استخدام طرق تسيطر عليها الجماعات المسلحة.

وسط هذا الظلام، تظهر بارقة أمل ومساحة للمقاومة، أبطالها في الغالب نساء يرفضن التخلي عن مجتمعاتهن، كغرفة الاستجابة النسائية للطوارئ في محلية عديلة بشرق دارفور، وهي مجموعة من المتطوعات اللاتي تحولن إلى شريان الحياة في منطقتهن. من داخل المنازل التي تحولت إلى ملاجئ والفصول الدراسية التي صارت عيادات طبية، تعمل هذه المجموعة في صمت على توفير ما عجزت عنه القنوات الرسمية للإغاثة الإنسانية، من رعاية طبية طارئة، ودعم نفسي واجتماعي، وتوعية بالنظافة العامة، ومساحات آمنة للناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي.

قصة هذه المجموعة هي قصة صمود، وُلدت من رحم الحاجة. عندما نفدت اللوازم الصحية للنساء، ابتكرت المتطوعات حلولاً بديلة، جمعن بقايا أقمشة وخيوط من الأسواق، وشرعن في حياكة هذه اللوازم بأيديهن، لتتحول هذه الحلول، التي اضطررن لها اضطراراً لتلبية الاحتياجات الأساسية، إلى رمز لاستعادة الكرامة، ودليل على التحلي بالرحمة والإنسانية حتى في زمن الشُحّ.

وسّعت نساء هذه المجموعة مهمتهن، فلم تعد تقتصر على تقديم الخدمات الصحية، بل صارت تشمل استعادة العملية التعليمية، وتوفير المأوى، وإتاحة فرص للعيش لمن فقدوا كل ما لديهم. نجح هؤلاء النساء في توفير قاعات دراسية للأطفال النازحين، ليواصلوا تعليمهم بعد أن باتت المدارس الرسمية خاوية، كما يقمن ببناء ملاجئ مؤقتة للعائلات التي طُردت من منازلها، ويعلّمن الناجيات الخياطة وغيرها من الحرف اليدوية من خلال برنامج للتدريب المهني، إذ تساعد هذه الأنشطة في تخفيف وطأة الذكريات والصدمات النفسية، وتوفر  للناجيات مصدر دخل صغير لكنه حيوي، يمنح قيمة لحياتهن. عندما تحدثت معهن، لم يصفن أنفسهن بأنهن شجاعات، بل تحدثن عن التعب المتواصل، وعن الليالي التي لم يعرفن فيها النوم، وعن الجيران والأصدقاء الذين فقدنهم، وعن الضغط النفسي الناتج عن محاولتهن للحفاظ على تماسك مجتمعات بأكملها، رغم قلة الموارد. وبرغم كل هذا التحدي، لديهن إيمان لا يتزعزع بأن البقاء على قيد الحياة نوع من المقاومة في حد ذاته، ويتحلين بشجاعة هادئة، مستمدة من إيمانهن بأهمية الرعاية المتبادلة وقناعتهن بأنه لا ينبغي لأحد أن يُترَك وحيداً في أوقات الشدة.

لم يعد بقاء السودان اليوم يعتمد على المؤسسات، بل على شعبه. لم تعد الحماية المسلحة ولا البرامج الرسمية للمساعدات أقوى خطوط الدفاع عن البلاد، بل المجتمع السوداني نفسه وفي القلب منه النساء، اللائي يذكرننا بأن القيادة في أوقات الأزمات لا تقتصر على المكاتب أو على من يحملون ألقاباً رسمية، بل تبدأ من مظاهر الرعاية اليومية، وتنمو بالتعاون بين الجيران في جمع الطعام للجوعى، وتصل قمتها عندما تسود الثقة بين أفراد المجتمع الذين يحمي بعضهم بعضاً عندما تعجز الأنظمة الرسمية عن ذلك.

وبينما ينصرف اهتمام العالم إلى أماكن أخرى، يواصل هؤلاء النساء عملهن. بغرزة تلو أخرى، بوجبة بعد وجبة، بعمل وراء عمل، يواصلن جبرَ الكسور التي تسببت فيها الحرب. عمل ينمُ عن حقيقة تتجاوز حدود السودان؛ حقيقة مفادها أن جهود الاستجابة المجتمعية للطوارئ ليست مجرد بديل يتم اللجوء له عندما تنفد الخيارات، بل هي أساس الصمود. وفي السودان، وغيرها من البلدان التي لا يلقى الحديث عن أزمتها اهتماماً، يكون الشعب أول من يهبُّ للمساعدة. ومرة بعد أخرى، تقف النساء في طليعة الجهود الإنسانية، يحافظن على تماسك مجتمعهن بقوة ممزوجة بالرحمة، يحدوهن أمل لا يغيب.