الرضاعة الطبيعية مسؤولية مجتمع: الثقافة، والسياسات، والدعم المجتمعي

مها العاكوم
كانت والدتي تهمسُ لي دائماً بأن «الجنة تحت أقدام الأمهات»، كلما اتصلت بها، وأنا محبطة، بعد محاولة أخرى أفشل خلالها في إرضاع طفلي وتنتهي بانهيار عصبي لكلانا، أو بعد ليلة لا أذق فيها طعم النوم بسبب الرضاعة المتكررة، أو بعد يوم آخر أشعر فيه بأنني لا أستطيع الخروج من المنزل دون تجهيز كمية محسوبة من الحليب في توقيتات محددة. ومثلي مثل كثير من الأمهات، تجاوزت فترة الرضاعة الطبيعية، بأعبائها الجسدية والنفسية، من قلق دائم حول كمية الحليب، وحسابات لا تنتهي، وعزلة صامتة، وإصرار شديد على منح رضيعي أفضل بداية ممكنة.
لأن كل قطرة مهمة
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن زيادة معدلات الرضاعة الطبيعية قد تنقذ حياة أكثر من 820,000 طفل سنوياً. ومع ذلك، فإن أقل من نصف الرضَّع حول العالم فقط هم الذين يحصلون على حليب الأم كمصدر وحيد للتغذية خلال شهورهم الستة الأولى، وهي فترة نعلم تماماً مدى أهميتها لمناعة الطفل ونموه وصحته مدى الحياة.
وتعد الرضاعة الطبيعية أول تدخل وقائي صحيّ في حياة الطفل. ولهذا، فإن دعم وتأييد السياسات التي تسهِّل الرضاعة الطبيعية وتشجعها يتسق اتساقاً تاماً مع رسالتنا. وفي منطقتنا، لا تزال معدلات الاعتماد على الرضاعة الطبيعية كمصدر وحيد لتغذية الطفل أقل بكثير من المعدل العالمي البالغ 48%، بل وأدنى من الهدف الذي حددته جمعية الصحة العالمية والبالغ 50%. ففي السعودية على سبيل المثال، أظهرت دراسة موسَّعة، أُجريت مطلع هذا العام، أن معدلات الاعتماد على الرضاعة الطبيعية كمصدر وحيد للأطفال الذين تقل أعمارهم عن 6 أشهر يبلغ 15.5%، بينما يصل إلى 5.8% فقط بين عمر 5 إلى 5.9 أشهر[1]. وفي عمان، تبلغ النسبة نحو 23%، وفي دولة قطر 29%[2].
وفي هذا العام، يحلّ الأسبوع العالمي للرضاعة الطبيعية وسط وعي متنام في دولة قطر بضرورة تحسين الدعم المقدم للأمهات من خلال الاستراتيجيات الوطنية، والمستشفيات الصديقة للطفل، وبرامج التوعية المجتمعية. ورغم التقدم الملموس في هذا الشأن، لا تزال ثمة تحديات للأسف. وقد حان الوقت للانتقال من مرحلة التشجيع إلى مرحلة التمكين الحقيقي.
القول الفصل للعلم
تعد الرضاعة الطبيعية من أنجع الوسائل لضمان بقاء الأطفال على قيد الحياة، وتغذيتهم، ونموهم الصحي، فهي تقلل من خطر الإصابة بالعدوى، والأمراض المزمنة، والسمنة لدى الأطفال، كما تحد من خطر إصابة الأمهات بسرطان الثدي والمبيض، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب.
ولدولة قطر جهود واضحة في هذا المجال ، تعكس التزامها بتحسين تغذية الطفل في مراحل عمره المبكرة ودعم الأمهات، ومن هذه الجهود توفير مرافق صحية تندرج تحت مبادرة المستشفيات الصديقة للطفل مثل سدرة للطب ومؤسسة حمد الطبية اللتان تقدمان إرشادات مهمة للأمهات الجدد. كما تسهم مشاركة دولة قطر في الحوارات العالمية وخطط العمل الإقليمية المعنية بصحة الأم وتغذية الرضّع في تعزيز هذه الجهود.
لكن الوعي وحده لا يكفي. فثمة حاجة إلى اعتماد أدوات تمكين هيكلية وسياسات داعمة للأسرة، مثل زيادة مدة إجازة الأمومة المدفوعة، وتوفير أماكن مخصصة للرضاعة. وفي هذا الإطار، تواصل قمة «ويش»، من خلال تركيزها على السياسات وقدرتها على توفير منصة لجمع الأطراف ذات الصلة، دعمَ الإصلاحات المطلوبة على الصعيد المؤسسي، والتي تعطي الأولوية لصحة الأمهات ومستقبل أطفالهن.
التحديات والفرص
رغم التقدم الذي أحرزته دولة قطر في السياسات الداعمة للأسرة، فإن عودة الأمهات إلى العمل غالباً ما تمثل نهاية رحلة الرضاعة الطبيعية لكثير منهن. وفقاً لمنظمة اليونيسف، تصل نسبة الأطفال حول العالم الذين تقل أعمارهم عن 6 أشهر ويعتمدون على حليب الأم كمصدر وحيد للتغذية إلى 40%، ويعود ذلك في الغالب لمدة الإجازة القصيرة التي تحصل عليها الأم أو عدم حصولها على إجازة مدفوعة، إلى جانب غياب الدعم في أماكن العمل. وفي دولة قطر، تقل النسبة عن المعدل العالمي، حيث لا يوجد سوى 18.6% من الأطفال القطريين و36% من الأطفال غير القطريين الذين يعتمدون على حليب الأم كمصدر وحيد للتغذية خلال الأشهر الستة الأولى[3].
تمنح دولة قطر لكل موظفة قطرية ساعتيّ رضاعة يومياً مدفوعتي الأجر لمدة عامين بعد الولادة، وهو عدد كاف من الساعات، وتقدم الدولة من خلاله نموذجاً متميزاً في المنطقة، ومع هذا لا تزال إجازة الأمومة – في معظم الحالات – مقتصرة على 50 يوم عمل مدفوعة الأجر، وهي مدة لا تكفي العديد من الأمهات، وخاصة العاملات خارج القطاع العام، لبناء عادة الرضاعة الطبيعية والمحافظة على استمرارها.
ولا شك أن القطاعين العام والخاص بمقدورهما تحسين هذا الوضع، من خلال تعزيز مرونة أوقات العمل، وتخصيص غرف لشفط الحليب مزودة بأجهزة تبريد لحفظه، ووضع برامج لدعم الرضاعة الطبيعية في أماكن العمل. ويمكن لقمة «ويش»، من خلال التزامها بوضع سياسات مبتكرة وتعزيز التعاون على مستوى القطاعات المختلفة، أن تساعد في ترجمة هذه الأفكار على أرض الواقع، بحيث لا تضطر أي أم إلى المفاضلة بين عملها وصحة طفلها.
ليكن الدعم هو الأساس
أنا أم لطفلين، ولذا أعلم الفائدة العظيمة للرضاعة الطبيعية، برغم ما فيها من مشقة. لقد عدت إلى العمل بعد إجازة الأمومة بمشاعر متضاربة كعادة معظم الأمهات. فاستمراري في الرضاعة كان يستنزف طاقتي، وكنت أشعر معه بالعزلة أحياناً، إلى جانب الصعوبات اللوجستية التي واجهتها بسببه. لكن سياسة ساعات الرضاعة، رغم صعوبة تطبيقها أحياناً في بيئات العمل السريعة، كانت طوق نجاة لي، بعد أن منحتني الوقت، وحرية الاختيار، والقدرة على الاستمرار في الرضاعة حتى في الأوقات التي أردت فيها التوقف.
ومع ذلك، أعلم أنني من المحظوظين، فكثير من النساء لا يتمتعن بالمرونة في العمل، ولا يتلقين الدعم المجتمعي، ولا الإرشاد الصحي اللازم. وهذا ما يجب تغييره.
إن الرضاعة الطبيعية ليست مسؤولية الأم وحدها، بل مسؤولية المجتمع بأكمله. لقد أرست دولة قطر دعائم قوية للسياسات المتعلقة بالرضاعة عبر سياستها الوطنية للرضاعة الطبيعية، وبرامج اعتماد المستشفيات، وحماية حقوق الأم العاملة. لكن ثمة حاجة للمزيد، وعلى وجه التحديد زيادة مدة إجازة الأمومة مدفوعة الأجر، ودعم حقوق الأمهات في أماكن العمل بصورة أفضل، وإطلاق حملات توعية عامة تدعم قبول ثقافة الرضاعة والاحتفاء بها في المجتمع.
واستشهد هنا بالدول الإسكندنافية التي يمكن فيها تمديد الإجازة المدفوعة حتى 12 شهراً، مع الحصول على نسبة 80-100% من الراتب. وفي السويد تحديداً تعتمد الدولة نظاماً مميزاً للإجازة المدفوعة، حيث تصل إلى 480 يوماً وتُقسَّم بين الأم والأب، وعادة ما توفر الجامعات وأماكن العمل في السويد أماكن مخصصة للرضاعة. وفي إستونيا، يدفع صندوق التأمين الصحي إجازة الأمومة، بما يعادل راتب الموظفة الكامل، لمدة تصل إلى 435 يوماً، ويمكن لكلا الوالدين الحصول على إجازة حتى يبلغ الطفل ثلاث سنوات.
ومن ثم، يجب على صناع القرار أن يستمعوا إلى الأمهات طيلة الوقت، لا أن يقتصر ذلك على الأسبوع العالمي للرضاعة الطبيعية. وعلى أصحاب العمل أن يدركوا أن دعم الرضاعة الطبيعية ليس عبئاً، بقدر ما يمثل استثماراً في مجتمعات أوفر صحة. أما نحن كمنظومة صحية عالمية علينا أن نواصل الدعوة إلى وضع حلول تستند إلى الأدلة، تحترم كرامة وصحة وتمكين كل امرأة وطفل.
وانطلاقاً من دورها لدعم النقاشات المتعلقة بالرضاعة، تعتزم قمة «ويش» تنظيم فعاليات توعوية مجتمعية بالتعاون مع شركائنا المحليين، حول فوائد الرضاعة الصحية للأمهات في دولة قطر، وذلك في الربع الأخير من عام 2025 والربع الثاني من عام 2026. للتسجيل، يرجى إرسال بريد إلكتروني إلى: WISHcommunity@qf.org.qa
أن ينعم الطفل في بداية حياته بصحة جيدة ليس منحة، بل حق من حقوقه. دعونا ننادى معاً لزيادة الوعي بالرضاعة الطبيعية، وتبني سياسات داعمة للأمهات بعد الولادة.
[1] الحريشي، فوزية عبد العزيز؛ الحمادي، أريج إبراهيم؛ الجبر، بدرية عبد الرحمن، وآخرون.
انتشار ممارسات الرضاعة الطبيعية ومحدداتها في المملكة العربية السعودية: دراسة مقطعية وطنية تستند إلى مؤشرات منظمة الصحة العالمية للرضاعة الطبيعية لعام 2021.
المجلة الدولية للرضاعة الطبيعية، مجلد 20، عدد 47، 2025.
https://doi.org/10.1186/s13006-025-00729-1
[2] منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف). نظرة عامة على وضع تطوير مرحلة الطفولة المبكرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
[3] متفرقات. (2018) قطاع الصحة يسعى لزيادة معدلات الرضاعة الطبيعية. وكالة الأنباء القطرية (2018). رابط المقال:
https://qna.org.qa/en/news/news-details?id=health-sector-seeks-to-raise-rates-of-breastfeeding&date=4/08/2018
)تاريخ الاطلاع: 15 يوليو 2025 ).